منذ عام 1995 تغيرت السياسة القطرية تغيراً جذرياً، فكل حكام آل ثان كانوا ينظرون إلى المملكة العربية السعودية على أنها الشقيقة الخليجية الكبرى التي يجب السير في طاعتها والحذو مثلها. ولكن مع وصول الشيخ حمد بن خليفة آل ثان للحكم رأى الرجل وفريق من الأمراء يدير معه السياسة الخارجية أن العلاقة بين قطر وأي دولة عربية يجب أن تكون علاقات تنافسية، ومن هنا قررت قطر أن تنطلق في المحافل الدولية، لسنّ سياسة خارجية قوية، وهكذا بدأ المشروع القطري للمنطقة.
المشروع القطري احتضن التيار الإسلامي في العالم العربي، بدعوى أنه الأكثر تأثيراً في الشعوب، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، ثم أنشأ قناة الجزيرة التي ظلت لسنوات طويلة أكبر منبر إعلامي للإخوان المسلمين في المنطقة.
ثم دعمت قطر الشيخ يوسف القرضاوي لإنشاء ما سُمّي بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عام 2004 في لندن، والاتحاد يضم كافة قادة التيار الإسلامي الذي ترى قطر أهمية تسويقهم للغرب، على أنهم البديل المناسب للأنظمة الاستبدادية في العالم العربي.
تضم الأمانة العامة للاتحاد الشيخ راشد الغنوشي -زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس- والدكتور محمد سليم العوا -المرشح المحتمل للرئاسة في مصر- بالإضافة إلى الشيخ سالم الشيخي -وزير الأوقاف في حكومة ثوار ليبيا- والشيخ صفوت حجازي، وعدداً من قادة التيار الإسلامي في العراق، مثل الشيخ محسن عبد الحميد الزعيم الأسبق للحزب الإسلامي العراقي (الذراع السياسية للإخوان المسلمين في العراق)... وغيرهم من الوجوه الدائمة على قناة الجزيرة القطرية.
وبعد مرحلة تكوين ذراع إعلامي قوي مثل قناة الجزيرة، ثم تكوين تجمع سياسي لإسلاميي المنطقة المعتدلين من وجهة نظر الدوحة، أتت مرحلة استضافة القاعدة العسكرية الأمريكية الأكبر في الشرق الأوسط، وهي القاعدة التي انطلقت منها الطائرات الأمريكية لسحق العراق، ثم أتت المرحلة التالية عبر الانخراط في سلسلة وساطات دولية من أجل سحب البساط من تحت السعودية ومصر، ولكن هذه الوساطات باءت جميعاً بالفشل، سواء عبر اتفاق الدوحة بين الفرقاء في لبنان، أو بين حكومة اليمن والتمرد الحوثي، أو بين حركتي فتح وحماس في فلسطين، وحتى بين حكومة السودان وتمرد دارفور.
وأتت المرحلة التالية عبر نسج علاقات مع إيران وأمريكا وإسرائيل في آن واحد، ورغم أن البعض ينظر بافتتان إلى هذه المعادلة، فإن وثائق ويكيليكس كشفت أن قطر تنقل تقارير منظمة إلى واشنطن حول ما يجري في الاجتماعات مع طهران.
ثم أتى الربيع العربي بغتة، فوجدت الدوحة أن الفرصة قد حانت، فانتشر شيوخها في أنحاء العالم العربي، على اعتبار أن الإسلام السياسي هو البديل المقبول شعبياً عن الأنظمة الدكتاتورية التي راح الربيع العربي يُسقطها واحدة تلو الأخرى.
وبالفعل جرى ما جرى في تونس من انتصار للغنوشي، يومها اكتفى البروفيسور اللبناني أسعد أبو خليل -أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا الأمريكية- بالقول: "لقد انتصر المال القطري على المال الأمريكي"، في إشارة إلى التمويل القطري للإسلاميين والتمويل الأمريكي للعلمانيين.
ولكن المشروع القطري بلغ الذروة في ليبيا، حينما أظهرت قطر أن لديها مؤسسة عسكرية قوية، قطر أنفقت حوالي 2.91 مليار دولار أمريكي على قطاع الدفاع في عام 2005.. قطر استهلكت 32.5 % من إجمالي إنفاقها في الفترة بين 2000 و 2004 لصالح قواتها العسكرية، وتلك ثالث أكبر نسبة إنفاق دفاعي في العالم العربي؛ حيث يسبقها عمان ثم البحرين.. المؤسسة العسكرية القطرية أمّنت سواحل بنغازي الليبية، وأمّنت تصدير البترول الليبي من بنغازي رغم استمرار المعارك في غرب ليبيا.
البوارج القطرية أجلت المئات من المدنيين من السواحل الليبية إلى بلادهم في عمليات إنقاذ إنسانية، الطيران القطري كان من أكثر الطائرات المشاركة في قصف ليبيا جنباً إلى جنب مع طائرات الغرب، وفي 26 أكتوبر 2011 أعلن اللواء حمد بن علي العطية أن تحالفاً عسكرياً دولياً سوف يكمل المهام العسكرية في ليبيا خلفاً للناتو.
ونوّه العطية أن هنالك "مئات من الجنود القطريين موجودون على الأرض في ليبيا؛ لمساعدة المقاتلين الذين أطاحوا بمعمر القذافي"، في أول تأكيد صريح لما أثير عن وجود جنود غير ليبيين شاركوا في المعارك الحربية، رغم محاولات الناتو لنفي هذا الأمر، ثم اكتفاء البعض بالقول بأن بريطانيا وفرنسا أرسلتا مستشارين عسكريين للثوار.
رئاسة قطر للتحالف العسكري الجديد في ليبيا، يُذكّرنا بما سمي في كتب التاريخ الفيلق العربي، وهو جيش أسسه الاستعمار البريطاني بقيادة حكام الأردن، من أجل أن يقوم بعمليات عسكرية نيابة عن الاستعمار الغربي حتى لا يثير تدخل الاستعمار في بعض المعارك حفيظة العرب.. والفيلق العربي حارب في بعض معارك الحرب العالمية الثانية بالشرق الأوسط، جنباً إلى جنب مع الفيلق اليهودي الذي تشكّل منه فيما بعد الجيش الإسرائيلي.
هكذا استطاعت قطر أن تقدّم أوراق اعتمادها للغرب؛ لكي تصبح صانعة الملوك والحكومات في الشرق، ووقت الحاجة لديها فيلق عربي جاهز جوياً وبحرياً وبرياً، ورئاسة قطر لهذا التحالف لن يأتي إلا بعد موافقة الغرب، وهذه الموافقة تعتبر موافقة ضمنية على المشروع القطري الجديد، وهذا هو ما كنت تريده قطر من الأحداث التي جرت في ليبيا.