سؤال مباشر: كيف لدولة مثل مصر ألا تكون بها آلية واضحة ومعلنة وقوية لإدارة الأزمات؟ كيف يمكن لدولة تحترم نفسها أن تتعامل مع مشكلاتها ب"المراهم المُسَكّنة" و"التلصيم"؟! الأزمة الأخيرة -مأساة مذبحة ماسبيرو- أوضح مثال لتلك الكارثة التي نعيشها.. كيف يمكن أن نكون في اليوم الرابع بعد يوم تلك الكارثة وليست لدينا حتى الآن معطيات واضحة لتفسير الموقف والتعامل الجدي معه بحيث لا يتكرر لا قدّر الله، بنفس الشكل أو بشكل آخر؟ كيف أن لدينا تصريحات رسمية متضاربة من مصادر عدة؟ فعلى سبيل المثال، فيما يخصّ سقوط قتلى من الجيش لدينا تصريح إعلامي أول بسقوط قتلى برصاص المتظاهرين (!!) وتصريح تالٍ له بأن الجيش لم يسقط منه ضحايا، وأن ما تم من إعلان ذلك كان نتيجة توتر المذيع؛ لأنه كان -يا عيني- "مخضوض" (وهي مهزلة؛ لأن المفترض من مذيع يذيع يوميًا أنباء المصائب والكوارث أن يكون مؤهلاً نفسيًا للتعامل مع تغطية الأحداث الصادمة) ثم تصريح من مصدر عسكري بأن الجيش بالفعل فقدَ بعض رجاله في تلك الأحداث، ولكن القوات المسلحة تخفي ذلك؛ كي لا تؤذي الروح المعنوية لأفرادها (واضح الإخفاء حقًا!!)، ولدينا مانشيت في جريدة رسمية يقول إن المتظاهرين حبسوا الجنود العُزّل (جنود القوات "المسلحة" عزّل!!) في المدرعات، وأشعلوا فيها النيران وتركوهم ليحترقوا أحياء ويتفحّموا!! ثم تصريح كارثي آخر بأن المدرعات التي دهست المتظاهرين تمّت سرقتها من الجيش!! كده عادي؟ تمت سرقتها؟!! على أساس أننا نتحدث عن "مَكَنَة صيني" في محل تأجير موتوسيكلات بمنطقة عشوائية لا عن مدرعات عسكرية بكل منها قوة مسلحة! لدينا كذلك كارثة صدور كلام محرض على الفتنة والعنف من المذيعة التي كانت تتابع الأحداث على التليفزيون المصري، ونداء للمواطنين الشرفاء بالنزول من بيوتهم والدفاع عن الجيش!! والحمد لله أن الشعب المصري كان من الحكمة بحيث لا يأخذ هذا النداء على محمل الجد، وإلا لكان خروجهم بمثابة حرب أهلية صغيرة! ماذا عن التصريحات الرسمية؟ د. شرف خرج علينا بتصريحات غير مفهومة ومبهمة ليست على مستوى الحدث، والمؤسسة العسكرية عقدت أمس الأربعاء -تذكّر أن الأحداث كانت مساء الأحد- مؤتمرًا صحفيًا!! هذا عن التعامل الإعلامي مع الأزمة، ماذا عن التعامل الأمني؟ لا شيء، كالعادة قبض عشوائي على بعض الأشخاص، وتقديمهم لمحاكمة عسكرية -رغم إعلان المشير طنطاوي وقف محاكمة المدنيين عسكريًا- وفرض حظر جزئي للتجوال على وسط العاصمة.. ولنحمد لله ونوقن أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان! وسط تناثر للأنباء عن وجود طرف ثالث غير المتظاهرين والجيش، طرف مسئول عن إشعال الموقف واستهداف الطرفين بالرصاص، وأنباء عن قناصة مرتزقة كانوا متمركزين في فندق مجاور لموقع الحدث، وأنباء أخرى عن فرض حالة تأهب قصوى لملاحقة عناصر إسرائيلية مسئولة عمّا جرى! الخلاصة أن المعطيات الأمنية تقول إن مصر قد تحوّلت ل"خُرم" أمني واسع يمكنه تمرير جيش يأجوج ومأجوج شخصيًا! لماذا هذه الفوضى الفاضحة في التعامل مع الموقف؟ ببساطة لأننا لا نملك آليات قوية للتعامل مع الأزمات.. لا أقول إنه ليس لدينا أشخاص مؤهلون لإدارة الأزمة، ولكني أقول إن صناع القرار لا يجيدون التعامل بحكمة مع الأزمات والمشكلات الخطيرة.. التنسيق بين مختلف القطاعات "إعلامية – صحية – أمنية - سياسية... إلخ" غائب، التحركات متخبطة مائعة، التغطيات والتصريحات ضبابية تترك لكل الأفكار السوداء العنان.. كل التحركات الرسمية يكون الغرض منها إنهاء "العرض" وليس القضاء على "المرض".. الأمر أشبه بمن يصاب بسرطان، فيكتفي بتناول المسكّنات، ويعتبر أن غياب الألم -ولو مؤقتًا وجزئيًا- هو أفضل ما يمكن الوصول إليه.. كلنا -تقريبًا- نعرف علام سينتهي الأمر لو استمر هذا التعامل "الفاشل" مع الأزمة، سينتهي باجتماعات وزيارات متبادلة بين شخصيات إسلامية ومسيحية بارزة، ربما مظاهرة أو اثنتان للوحدة الوطنية، والمشهد الشهير للشيخ والقسيس وهما يتبادلان القبلات، نحن فيما يخصّ الأزمات والجروح الوطنية نتعامل بمنطق "بوس الواوا" حتى تصير الواوا "بَحّ"! المشهد لا تنقصه سوى عبارة "نلتقي في الجزء الثاني من الكارثة"! (طبعًا أنا ما زلت على إصراري أن المسألة ليست طائفية، لكني أتحدث من منطلق الإعلام الرسمي المُصِرّ بشدة على جعلها كذلك!). وليت الأمر يتوقف عند العجز عن إدارة الأزمة، بل هو يتجاوزه -بطبيعة الحال- لصناعتها، فالنتيجة الطبيعية للعجز عن التعامل مع الأزمة هي خلق أزمات جديدة: أزمة ثقة بين الشعب وصانع القرار، أزمة "إفتاءات" من كل من يريد الظهور بمظهر المحلل العالم ببواطن الأمور، أزمة شائعات تؤثر على سير العمل و"السكينة العامة" ومؤشرات البورصة والسياحة والاستثمار الأجنبي، أزمة غضب لدى الأطراف المعنية بشكل مباشر بالأمر -كأهالي الشهداء وأفراد الجيش- أزمة طائفية بين من يتأثرون للوصف الرسمي للمشكلة.. كل هذا على سبيل المثال لا الحصر.. والمصيبة أن الأزمة حين لا يجري التعامل معها بجدية وحزم وحكمة فإن خيوطها تصبح أشبه بخيوط تريكو عبث بها قطّ عصبي، فأزمة ماسبيرو مثلا نحن لا نعرف من أين بدأت وأين تنتهي، هل بدايتها التعقيدات الإدارية لإجراءات بناء كنيسة؟ أم هي في روح التعصب التي دفعت بعض الأهالي لمهاجمة بناء مسيحي -سواء كنيسة أو مضيفة؟ لعلها التصريحات غير المسئولة لمحافظ أسوان؟ أم هي تلكؤ الحكومة في إصدار قانون واضح لدور العبادة؟ ربما يقول البعض إن المشكلة بدايتها مزيج من الشحن النفسي من النظام السابق للمسيحيين أنهم أقلية مهددة، والشحن العاطفي من المتعصبين لضعاف العقول من المسلمين أن المسيحيين هم "طابور خامس" للمؤامرة "الصهيوصليبية" على الإسلام.. أو ربما يرى البعض الآخر أن المشكلة في أن التعامل الرسمي مع مشكلاتنا يغلب عليه الطابع الأمني.. الأمر معقد ويحتاج لمن يصفهم رجل الشارع ب"أهل العقل والصواب".. هؤلاء هم من أعنيهم حين أتحدث عن وجود "آلية لإدارة الأزمات" وبغيرهم فنحن دون مبالغة نسير في الطريق السريع لهاوية لا يعلم مداها إلا الله! لماذا نعيش تلك المشكلة -أعني غياب أدوات وخطط التعامل مع الأزمات- الآن؟ لأننا مع الأسف نتعامل مع المخاطر التي تقطع الطريق المستقيم لأهدافنا الوطنية باعتبار أنها "أمور عارضة بسيطة عندما تحدث يحلّها ألف حلّال!" وطبعًا هذا التفكير قمة في التخلف الإداري، فالمفترض لدى كل إدارة -من أصغر إدارة بأصغر وحدة محلية بالدولة إلى قمة الهرم الإداري نفسه- أن يكون لديها خبراء في افتراض ووضع سيناريوهات لكل ما هو ممكن من أزمات ومشكلات وتحديات، بناء على معطيات دقيقة يزوّدهم بها خبراء آخرون في جمع المعلومات وتنسيقها وتحليلها، مع وجود حالة استعداد دائمة لدى مختلف قطاعات الدولة للتعامل الفوري مع أية أزمة طارئة، والاستعداد المسبق لما يمكن توقّعه منها، فضلا عن تأهيل العاملين بمختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية على التعامل مع الأزمة في حدود وظيفة كل منهم، حتى لا نرى مهزلة إعلامية ك"مهزلة المذيع المخضوض" سالفة الذكر! كذلك على صناع القرار أن يتفقوا على "من يفعل ماذا ومتى"، حتى لا نصاب ب"الحَوَل" ونحن نقلب أعيننا بين مسئول وثانٍ وثالث وعاشر... وكل منهم يقول كلاما يتعارض مع الآخر في آن واحد! ولا ننسى أن الشفافية تلعب أهم دور في تهدئة الشارع وتهيئته للتفاعل إيجابيًا مع الأزمة، لا أطالب بإعلان كل المعلومات، ولكن على الأقل الحد الأدنى المطلوب منها لسد الطريق على الشائعات بالذات المهيج منها للمواطن العادي، مع التشديد على التزام الصدق والعقلانية والحيادية في التناول الإعلامي للأمور، لا كما جرى في الأحداث الأخيرة! بمعنى أكثر اختصارًا نحن نحتاج لبناء كامل من الصفر لعملية إدارة مؤسسات الدولة وصناع القرار للأزمات؛ لأن ما يجري الآن مهزلة رسمية وفضيحة على المستويين الداخلي والخارجي، وقنبلة موقوتة راقدة تحت أساس الدولة المصرية لا تنتظر سوى تلك الشرارة المفاجئة لتنفجر، مطيحة بالأساس وبالدولة معًا!