نعود مرة أخرى لأحداث ماسبيرو فى قضية يكتنفها الكثير من الوهم رغم أن الحقيقة واضحة وضوح الشمس، وتلك القضية هى دور ومسئولية الإعلام الرسمى ممثلا فى التليفزيون الحكومى ومؤسسة وزارة الإعلام ككل فيما حدث. ففى حين شهدنا وتابعنا هذا الجزء من دون أسرار وبشكل مباشر، جاء التعامل الرسمى عبر تصريحات من مسؤول من المجلس العسكرى، بالإضافة إلى تعامل الجهاز الإعلامى نفسه، لتؤكد حسن الأداء والتفاخر به لأنه قام بتغطية مباشرة لحدث كان يتم فى إطاره الجغرافى ولا يمكن تجاوزه، مع توزيع بعض الاتهامات بعد تصاعد الاحتجاجات بين المذيعة التى قامت بتغطية الحدث والجهات الإدارية التى وجهت سياق التغطية حول المسؤول عما قيل ومسئولية ما قيل فى الأحداث. ومرة أخرى أجد من الأفضل أن نميز بين التغطية نفسها ودور التغطية فيما حدث، ورغم أن الفارق ليس كبيرًا فى ما ترتب عليه، فإنه كبير فيما يعبر عنه من أزمة. فالتغطية تعبر عن عقلية القائمين بها، بالإضافة إلى ما تعبر عنه من مهنية فى التغطية، أما دورها فيما حدث فهو تعبير عن حقيقة وجود دور للتليفزيون الرسمى فى التعبئة والتحريك، وهو ما يعنى أن ما يقوم به التليفزيون الرسمى المدفوع من دافع الضرائب المصرى ليس شأنًا خاصًا بحكومة أو مجرد شأن إدارى لأنه فى تأثيره يتجاوز هذا الدور ويحتاج لإعادة هيكلة جذرية تخرجه من ثوب التأثير السلبى ومن كونه مكونًا من مكونات صناعة الفرعون فى مصر، إلى مؤسسة لها دور إعلامى ووطنى يتسق مع مصر مختلفة، كما يؤكد ضرورة إعادة النظر فى عمليات التقييد التى تمت على الإعلام فى صوره الأخرى، سواء بشكل مباشر عبر الغلق أو بشكل غير مباشر عبر الضغط أو وضع المزيد من الخطوط الحمراء وافتراض مساحات من الرقابة الذاتية دفعت البعض للابتعاد النسبى فى حركة عصيان سلمية كما فعل يسرى فودة مثلا رغم عدم وضوح تفاصيل قراره واستمرار الغموض فى بعض أوجهه.
لم يشهد أداء التليفزيون المصرى تغيرًا إيجابيًا حقيقيًا ما بعد الثورة، واستمر فى إدارته معبرًا عن نفس العقلية التى أدير بها الإعلام الحكومى لعقود خاصة فى خلق أبطال جدد ودعم صورة الفرعون أيًا من كان. ولكن المشكلة التى عبرت عنها أحداث ماسبيرو أكثر عمقا من هذا ولا تختلف بالنسبة لى عن تعامل الجهاز الأمنى التابع للداخلية من ضباط شرطة وعساكر مع المتظاهرين خلال أحداث الثورة، ففى الحالتين نجد أنفسنا أمام عقلية تحمل الكثير من العنف وكره الآخر، ليس فقط المختلف فى الدين أحيانا ولكنه الآخر فى عمومه الإنسانى لأن الإنسان فى أصله الطبيعى سيرفض استخدام العنف بهذا الشكل أو تبريره تحت أى مسمى. فخلال أحداث الثورة استوقفتنى فكرة العنف فى القتل حين وجدنا أنفسنا أمام حالات يتلقى فيها الشخص عدة طلقات فى رأسه أو وجهه مثلا، فهل هذا تنفيذ لقرار أو تعبير عن أزمة أكثر عمقا؟ وعلى السياق نفسه هل حماس المذيع/ المذيعة وارتجاله فى التعليق على حدث ما مجرد تنفيذ لقرار إدارى أو قراءة لخبر رسمى مقدم له/ لها من قبل الجهة الإدارية المعنية، أو أنه تعبير عن مشكلة أخرى مرتبطة بتصور هذا الشخص أو بالطريقة التى تم بها إعداد هذا الشخص فيما يتعلق بتنفيذ الأوامر وفيما يتعلق برؤيته العامة للأحداث وللوطن وتركيبه؟
لم تكن التغطية التى قام بها التليفزيون الرسمى مجرد تغطية ركيكة أو غير مهنية ولكن تغطية كارثية فيما تحمله من معان وفيما ترتب عليها من آثار وفيما عكسته من مشكلة. التغطية التى قام بها تليفزيون يعتبر التليفزيون الرسمى للدولة جاءت على طريقة التمييز بين نحن والآخر على الرغم من أن هذا الآخر المفترض ليس إلا أبناء مصر أيضًا ولا يختلفون عن هذه المذيعة أو الجهاز الذى تعمل فيه فى شيء عندما يتعلق الأمر بالمواطنة، كما أنهم يزيدون عليها بأنهم دافعو الضرائب وبشكل مباشر وواضح هم سبب وجودها فى هذا المكان الذى تم استخدامه لتوجيه سهامه لهم بوصفهم مسيحيين. كما تم استخدام أسلوب مستهلك ظهر واضحًا بعد الثورة للآسف فى العديد من التغطيات والتعليقات التى تريد أن تثبت وطنية شكلية حين تتم مقارنة حدث وسلوك ما بإسرائيل وكأننا لا يمكن أن نعرف الصواب والخطأ إلا بمقارنته بإسرائيل، وكأننا لا نعرف ما هو صواب وخطأ فى ذاته؟ وهو ما أعتبره فى تلك الحالات التى يذكر فيها إسقاطًا مستفزًا وخارج سياقه ومن قبيل الاستخدام الركيك لصراع آخر فى قضايا لا تخصه.
كانت نبرة الصوت وطريقة الإلقاء والكلمات التى تكررت عبر التغطية والمناشدة للمصريين الشرفاء ضد المسيحيين المعتدين واضحة وتتجاوز مجرد إلقاء بيان أو صورة مغلوطة وصلت خلال الأحداث، كانت تعبيرًا عن عقلية تحمل بين طياتها تقسيمًا واضحًا لنحن والآخر، وتعبيرًا عن تبرير واضح لاستخدام العنف وتصعيد المواقف بدلا من تهدئتها حرصًا على مصلحة البلد القومية ووحدته الوطنية. والمشكلة فى بعدها الآخر أن حجم الخطأ لم يتم التعامل معه بما يقتضيه من محاسبة، ولم يجد القائمون بتلك الأخطاء غضاضة فى الاعتذار عبر قنوات إعلامية أخرى بحجة الفهم المغلوط بعد تزايد الغضب وحملات المقاطعة والدعوات للمحاسبة. وكلما شاهدت تلك الصور، وكيفية التعامل معها والتبريرات المقدمة تأكدت من أن الثورة بالأساس عملية مستمرة تبدأ بتغيير كراسى عليا ولكنها لا تتوقف حتى تصل لعقليات ومؤسسات تربت على وجود الفرعون ووجود نحن فى مقابل الآخر ووجود مساحات ضيقة للمنفعة لا يعنيها أن تأتى على حساب الوطن.
أما التعامل الحكومى فهو خارج سياق النقاش فى حكومة استنفدت رصيدها الذى افترضت أنه كاف لتستمر وهو رصيد الميدان أو وجود بعض الأسماء التى لم تكن بالضرورة محسوبة على النظام المراد إسقاطه، وبدلا من أن تستغل هذا الرصيد فى دعم خطط تغيير وبناء حقيقية، وفى الوقوف موقف القوي وصاحب الحق فى مواجهة طيور الظلام استنفدت الرصيد فى تكرار الأخطاء والبدء من جديد لتصبح حكومة ضعيفة ولا تحظى بأى رصيد وهو الأمر الذى يمثل سمة عامة فى كل قطاعاتها بما فيها وزارة الإعلام التى اكتفت عبر التصريحات بأنها نافست عبر التغطية المباشرة وأنها لم تتجاهل الحدث وكأن المحتوى قضية أخرى لا ينبغى أن نحاسب عليها، وكأن الأثر المحتمل لتلك التغطية والتصعيد الذى تم وتسببت تغطية التليفزيون فى جزء منه ليس قضية تستحق التوقف أمامها والمحاسبة والاعتراف بالخطأ عنه. المشكلة الأساسية أن مناخ الثورة يرتب طموحات لعل أبسطها أن تختلف أساليب المسؤولين فى مواجهة الأزمات وأن يدرك كل مسؤول أن الصدق منجاة والاعتراف بالخطأ شجاعة ترتبها ضرورات الوظيفة العامة وأن مقبرة الذاكرة التى اعتمد عليها النظام المراد إسقاطه كُتب على بابها مفتوح لبحث الملفات القديمة ولا مكان لملفات جديدة.