لا أعرف حقيقة ما هو الأمر الأكثر إثارة للعجب فيما يتعلق بالمقابلة التى تم إجراؤها مع الأسير الإسرائيلى جلعاد شاليط من قبل التلفزيون المصرى، هل عمق الخلل الذى يعانى منه التلفزيون المصرى، أم عمق الخلل الذى تعانى منه الإدارة التى تعاملت مع الخلل الأول بمنح مكافآت بدلا من تحويل الملف للجنة أداء تقوم بتحليل المقابلة ونقاط الضعف فيها. بداية لا أعتقد أن مصر الثورة يجب أن تقاد بنفس طريقة مصر قبل الثورة التى يرد فيها على الانتقادات الموضوعية عادة بمنح مكافآت وترقيات. ولا أعتقد أن مشاركة أحد فى الثورة ودعمه لها أمر يقصد منه أن يكون فوق النقد الموضوعى والمكاشفة والمحاسبة إن وجبت فى حالة الخطأ. فنحن أمام لقاء كان يفترض فيه أن يكون لقاءً تاريخيا، ولكنه بدلا من ذلك تحول كما تم وصفه على وسائل التواصل الاجتماعى ومقالات وتعليقات مختلفة إلى فضيحة وكارثة وسقطه وفشل للإعلام المصرى. وأن أضفنا لقاء شاليط مع أحداث ماسبيرو يمكن أن ندرك بشكل واضح أن القضية فى جزء منها تتجاوز لحظة صدمة أو توجيه من سلطة ما كما قيل، لمشكلة هيكلية- موضوعية تتعلق ببنية الإعلام المصرى، وحقيقة تحول التلفزيون وأشياء كثيرة فى مصر إلى وظيفة حكومية لا ترتبط بالكفاءة والإبداع المهنى بقدر ما ترتبط باعتبارات أخرى بعضها موضوعى- قانونى خاص بالأقدمية كآلية للترقى، وبعضها غير موضوعى متعلق بعوامل دخول تلك المؤسسات والبقاء والصعود فيها ومرور الخطأ دون محاسبة، عوامل دخول تضم بدورها الواسطة والمحسوبية وأشياء أخرى كثيرة
ليس المقصود هنا أن نتعامل مع شخص بذاته، ولكن المقصود هو المكاشفة والتساؤل حول معايير التقييم الغائبة، والتأكيد على ضرورة طرح الحقائق التى يتم إنكارها ورفض التعامل معها لإثارة نقاش يتجاوز تلك الحادثة لطرح نقاش مجتمعى أوسع حول أداء ودور جهاز التلفزيون الحكومى ومسئوليته. فعندما وقعت أحداث ماسبيرو ووجه نقد حاد وموضوعى لتغطية التلفزيون المصرى، جاء الرد ضعيفا على طريقة أن لم نقم بالتغطية أتهمنا بالتضليل وأن قمنا بالتغطية تعرضنا للنقد، وليس فى الإمكان أحسن مما كان. أما فى حالة شاليط فلم يشاهد أحد التغطية على ما يبدو، أو لم يتم تغيير المقاييس المستخدمة لتقييم الأداء -أن وجدت- حيث جاء الرد على طريقة منح مكافآت وهو ما يعد رد - بشكل غير مباشر- على الانتقادات التى وجهت للتلفزيون فى أحداث ماسبيرو، مكافآت بررت بأن الأداء تم على مدار ست ساعات متواصلة للحدث دون أن يقنعنا أحد بأن التغطية كانت بالفعل على المستوى الحرفى المفترض. نحن أمام حالة كان يفترض فيها طرح تساؤلات حول طبيعة التغطية، وما تمثله من إضافة لصورة مصر الثورة أن لم تكن صورة مصر بالمطلق، والعائد على مصر ومكانتها الإقليمية والدولية من تلك التغطية، ولكن يبدو أن الثورة لم تصل بعد لجهاز التلفزيون وللإعلام المصرى وأن آليات النظام السابق المراد إسقاطه ممثلا فى الرئيس الأسبق فى التعامل مع كل مطالب شعبية تدعو لمحاسبة أحد بمنحه المزيد من التقدير لازالت قائمة فى المشهد
اللقاء يفتقد بالنسبة للمتلقى غير المتخصص أبسط قواعد إجراء مقابلة فما بالك بأن تكون مقابلة من هذا النوع الذى تحظى فيه بحكم الموضوع واللحظة باهتمام يجعله لقاء واسع التغطية والنقل على مستوى العالم. لقاء هو الأول مع شاليط بعد سنوات الاسر كان يفترض أن يكون معبرا عن معنى مقابلة حرفية تم التجهيز لها عبر اختيار أفضل طاقم وتحديد مجموعة من الأسئلة المهمة حتى مع قلتها وهو ما لم يتحقق. وبدلا من أن نكون الأفضل أو ضمن الأفضل أصبح علينا أن نشاهد ونحن نسأل أنفسنا ماذا كان يمكن أن تكون عليه تلك المقابلة أن قامت بها جهة أخرى؟ وما الذى كان يمكن أن تقوم به دول أخرى أن قامت كما فعلت مصر برعاية حدث مثل الاتفاق بين حماس وإسرائيل لتبادل الأسرى؟ وكيف كانت ستستغل هذا الحدث إعلاميا للترويج لدورها ومكانتها؟
وفى هذا السياق نقوم بطرح عدد من النقاط الدائرة حول اللقاء سواء من بعض التعليقات حوله أو من مشاهدتى له. فمن جانبيطرح البعض التساؤل حول استخدام اللغة الإنجليزية فى الحوار الذى بثه التلفزيون المصرى وهو أمر مشروع ومنطقى خاصة وأن الإخراج النهائى يتسم بعدم الوضوح. نحن أمام لقاء يتم فيه توجيه الأسئلة باللغة الإنجليزية، ليتم ترجمتها لشاليط باللغة العبرية، مع ترجمة الحديث بما فيه من سؤال ورد باللغة العربية وهو ما يطرح التساؤل حول استخدام اللغة الإنجليزية فى طرح الأسئلة.ورغم ما قد يتبادر إلى ذهن المشاهد من إمكانية عدم معرفة المترجم المعنى بالترجمة لشاليط للغة العربية والحاجة إلى توجيه الأسئلة باللغة الإنجليزية، إلا أننا نفأجا فى سياق اللقاء بحوار باللغة العربية يفترض أنه دار بين المذيعة والمترجم. وهنا يصبح من الضرورى أن نتساءل حول السبب وراء استخدام اللغة الإنجليزية أن لم تكن النية موجهة لنقل الحوار بمجمله باللغة الإنجليزية؟
البعض تساءل أيضا عن اختيار القائمين بالمقابلة ولماذا هؤلاء تحديدا. وفى حين رأى البعض أن الأمر مرتبط باللغة المستخدمة لإلقاء الأسئلة والتى لا ندرك بعد سبب طرحها بالإنجليزية فأن النقطة الأكثر أهمية، وبدون معرفة معايير الاختيار أو تحديد الطاقم الذى قام باللقاء، لا تتعلق فقط بجودة الصانع بل بجودة المنتج. ونحن هنا أمام قضية نتعامل فيها مع المنتج النهائى كما وصل للمتلقى دون أن يعنينا الصانع أو جودته المفترضة. وهو ما ينقلنا للتساؤل عن المنتج النهائى كما وصلنا وللدقة كما شهدته وشعرت به. وعندما نأتى للمنتج وللأداء نتوقف أمام قضيتين أساسيتين: الأولى طبيعة الأداء والثانية المحتوى ممثلا فى الأسئلة المطروحة وما صاحبها من ترجمة تمثل لنا الوسيط المعنى بنقل ما قيل. ورغم أن تلك النقاط لها متخصصيها فأن تعاملى معها سيكون من باب المشاهد الناقد
بداية جاء الأداء طارحا لتساؤلات كثيرة خاصة عندما دار الحوار بين المذيعة المنوط بها إجراء المقابلة والمترجم، ففجأة وفى لقاء مباشر يحاط بكل تلك الأهمية يعلق المترجم -على ما يبدو- على سؤال المذيعة ويبدأ نقاش بينهم حول السؤال وتكراره وتجاوزها لغيره وتبريرها له بأنها تشعر بأن الضيف متعب وترى أن عليها تجاوز بعض الاسئلة. المشكلة، وبعيدا عما تعتقده وهى على الهواء مباشرة، أن هذا النقاش لم يكن يفترض به أن يصل للمتلقى، وحقيقة لا أتذكر مشاهدة مثل تلك السقطة فى بث مباشر لمقابلة ما من قبل. وإن كان الضيف متعبا وخلافه يصبح السؤال لماذا لم يتم تنظيم الظهور المباشر بطريقة أفضل ولماذا لم يتم الاكتفاء بأسئلة مهمة تختصر وقت اللقاء وتحفظ ماء الوجه؟
تلك التساؤلات بدورها تنقلنا لنقطة أخرى وهى الأسئلة: ولعل النقطة الأساسية التى استوقفتنى أن الأسئلة -بما فى ذلك بعض الاسئلة التى طرحت على الأسرى المحررين فى الحافلات التى نقلتهم لداخل مصر- يمكن وضعها ضمن أسئلة فترة الأعياد فى مصر أو تأييد سياسة الحكومة تجاه شئ ما. فالأسئلة جاءت على طريقة هل أنت سعيد؟ وما رأيك فى سياسة الحكومة الرشيدة؟ وهى بالطبع أسئلة كان يمكن تجنبها أو على الأقل وضعها بأسلوب يقر بها كحقيقة للحصول على المزيد من التفاصيل وليس كسؤال فتصبح أكثر تقبلا من المشاهد. أما سؤال من نوعية لماذا لم يظهر شاليط مرات أكثر فهو خارج أى سياق منطقى وكان على شاليط أن يرد على المذيعة بأن عليها أن توجه سؤالها لحركة حماس لأنه ببساطة ليس اختياره إلا اذا كان لدى المذيعة تصور أخر عن تلك السنوات التى قضاها فى الأسر.
يضاف لما سبق ما ذكر وطرح للنقاش بعد الكشف عن وجود اختلاف فى الترجمة بين ما بثه التلفزيون المصرى وما قاله شاليط، وهو ليس مجرد اختلاف يمكن المرور عليه ببساطة كونه يعبر عن وجود حالة من الخفة غير المبررة والتى لازالت تحكم السلوك والأداء فى مصر. الترجمة فى هذا الإطار لن تكون فى صالح سمعة مصر ولا دورها المفترض. أن يتم تغيير كلامه بهذا الشكل الذى تردد قد يعيدنا مرة أخرى للحديث عن الفوتوشوب والصور التعبيرية ولكنها للآسف تتجاوز مجرد رؤية تعبيرية لموقع رمزى فى صورة لكلمة تغير الكثير فى قضية سياسية متشابكة بدورها، وتتعلق بسمعة ومكانة مصر وليس مجرد حدث يتم تجاوزه بمكافأة تمنح من أموال دافع الضرائب المصرى
ومن ضمن النقاط التى أشير لوجود اختلاف فى الترجمة فيها ما يتعلق بموقف شاليط من الأسرى الفلسطينيين وتأييده للإفراج عنهم، ففى حين اعتبرت ترجمة التلفزيون المصرى أنه أيد هذا وأعلن عن سعادته أن تم الإفراج عنهم، فإن الترجمة المطروحة تؤكد أنه ربط بين الإفراج عنهم والتزامهم بالسلام وعدم اللجوء للعنف ضد إسرائيل، موقف جعل عدد من المتحدثين الإسرائيليين فى لقاءات تالية يشيدون بما قاله شاليط كونه عبر عن السياسة الإسرائيلية، وهو ما يتناقض مع ما يمكن فهمه من الترجمة التى بثها والتى تعنى بشكل ما أن شاليط بعد سنوات الأسر يقر بالإفراج عن كل أسير فلسطينى وهى رسالة تحمل معانى مختلفة كما يمكن أن تكون لها انعكاسات مختلفة فى التقييم.
أما ما جاء من تعليق شاليط حول شعوره فى اللحظة وسعادته لعودته لمقابلة الناس مرة أخرى، مقابل الترجمة التى بثها التلفزيون المصرى بأنه سعيد بأن يقابل كل من ساعد فى الإفراج عنه فتبدو كترجمة يقصد منها إرسال رسالة شكر للجهود المصرية ولكنها رسالة على طريقة الدب الذى قتل صاحبه فالدور المصرى لم ينكره أحد، وتكرر الثناء عليه من جميع الأطراف المعنية بالقضية وعملية التبادل والمتابعين ولن تكون مصر سعيدة بأن تذكر بتلك الطريقة الملتوية أن شئنا القول
نحن أمام حالة لا ندين فيها أحدا بذاته ولكنها تؤكد على استمرار آليات تصور البعض أن الثورة وسقوط مبارك ستكون كفيلة بالقضاء عليها فى لحظات أو أشهر فجاء أداء التلفزيون المصرى فى حدثين متتالين ليؤكد بأن الثورة لم تكتمل بعد وأن الطريق لازال طويلا وأن الآليات المراد إسقاطها تتواجد حتى بين من جاء من خارج مؤسسة الحكم شكلا. ولازال السؤال مطروحا: هل نعيد إنتاج ما قبل الثورة فى ثوب جديد أم أننا نريدها فعلا ثورة تغيير ومكاشفة وإصلاح؟ ------------------------ * باحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية