السؤال قطعا عن مصر، والإجابة لا بد أن تكون عن أهل مصر. الحب الأفلاطوني الذي يدّعي فيه الإنسان المشاعر النبيلة تجاه شخص أو كيان ما دون أن يتخذ الإجراءات اللازمة لترجمة المشاعر إلى سلوك، يعني ضمنا أن هناك خللا في الوعي والإرادة. لا يوجد عندي أدنى شك في أننا نحب بلدنا، ولكننا نتصرف كثيرا وكأننا نكره أهلها، أو على الأقل وكأننا نضنّ عليهم بأن نساعدهم تحت أعذار مختلفة بما فيها الانتظار لأن يأتي القائد الملهم الذي سيحدد لكل واحد فينا دوره. والمشكلة أن هذا النوع من التفكير مضرّ بالوطن الذي نتغنى بحبه، بل هو رخصة لأن يتكاسل البعض عن القيام بدوره؛ انتظارا للزعيم المجهول، بل أزعم أننا بتكاسلنا هذا ينطبق علينا قول إيليا أبي ماضي: من ليس يسخو بما تسخو الحياةُ به فإنه أحمقٌ بالحرص ينتحرُ وهو ما يذكّرني كذلك بقصة "المرتبة المقعرة" التي كتبها د. يوسف إدريس، والتي جسّد فيها لنا شخصا يحب الحياة ويكره أن يعمل لها. فقد رأى العالم من حوله فاسدا وقميئا ولا يتناسب مع معاييره الأخلاقية، فقرر أن ينفصل عنه إلى أن يتغير هذا العالم المتوحش. نام الرجل على سريره وطلب من زوجته ألا توقظه إلا إذا تغير العالم. نام لبعض الوقت ثم استيقظ سائلا: هل تغيّر العالم؟ فنظرت زوجته حولها وأجابت: لم يتغيّر العالم. ربما يكون تمتم ببعض الكلمات التي تعبّر عن ضجره من أن العالم لم يتغيّر بالسرعة الكافية، ثم مارس هوايته التي يجيدها وهي النوم والانتظار، ثم استيقظ وسألها نفس السؤال: هل تغيّر العالم؟ فنظرت من النافذة وقالت: لم يتغيّر العالم بعد. وهكذا ظل ينام ويستيقظ ويسأل فتنظر زوجته حولها وترد عليه بنفس الكلمات. وبمرور الزمن بدأت مرتبة السرير تهبط وتأخذ شكل جسده المقعر. وبعد أن نام شهورا وسنوات، دون أن يتغير العالم، تحوّلت المرتبة إلى كفن يعيش فيه انتظارا لمجهول لن يحدث، ثم مات فأراح واستراح. وهنا نظرت زوجته إليه وهو ينعم بموته في كفنه.. وقالت: الآن تغيّر العالم. وربما كانت تقصد الآن تخلّص العالم من أحد أولئك الكسالى الذين ينتظرون التغيير ويأملونه ولا يحركون ساكنا من أجله. هذه القصة تقول إن العالم يتغير حينما نساهم في تغييره، أما إذا قررنا أن نقف منه موقف المنتظر حتى يتغير، فنحن عمليا نسهم في جموده؛ بصمتنا تجاهه وانتظارنا لخروجه عن مألوف عادته حتى يتغير. وأغلب الظن أن العالم سيبادلنا تجاهلا بتجاهل؛ لأننا لم نفعل ما يكفي كي نجعله أفضل حالا. وعليه فهناك نوع من البشر يغير العالم الذي يعيش فيه، وهناك آخرون يتساءلون ما الذي يتغير، وهناك من لا يعرفون حتى إذا كان هناك شيء تغيّر أم لا. وطنك بحاجة لجهدك وعطائك، وأول العطاء ألا تنال أو تسخر ممن يعطون ويجتهدون وينتجون، وإنما أن تغبطهم وتتمنى أن تكون مثلهم، وأن تأخذ المبادرة دون أن تنتظر أحدا. كلام الحب يجيده كل أحد، إنما العطاء الفعلي لا يجيده إلا المخلصون في مشاعرهم. أولئك الذين قال عنهم عبد الرحمن الكواكبي: "ما بال هذا الزمان يضنّ علينا برجال ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون". كن من هؤلاء، فدائرتهم تتسع بقدر إرادتك في أن تعمل وأن تجتهد مهما كانت الإحباطات واحتمالات الفشل. بهذا سنكون بالفعل نحبها ونحب أهلها، نعمل لها ونساعد أهلها. نشر بالشروق بتاريخ 11/10/2011