تحتفل مصر اليوم بذكرى ميلاد فتاها الذهبى الوضّاء الصاخب الفياض يوسف إدريس. كل سنة ونحن طيبون بقصصه ورواياته ومسرحياته ومقالاته المتوهجة وأفكاره اللامعة ومدرسته التى لا تغلق أبواب دهشتها أبداً. بالنسبة لى يوسف إدريس رحمه الله واحد من خمسة كتاب معالجين، أعيد قراءة أعمالهم كل فترة لأعالج نفسى من أمراضها وإرهاقها وحيرتها وزهقها، ولعلكم تحسنون إلى أنفسكم صنعاً لو أعدتم على الدوام ولو بغرض العلاج قراءة نجيب محفوظ ويحيى حقى وعزيز نيسين ويوسف إدريس ومحمود درويش رحمهم الله وجزاهم عن كل النفوس المعذبة خير الجزاء. منذ أيام وأنا أطالع أرشيف الدكتور يوسف إدريس، شاهدت تلك الصورة الشهيرة التى جمعته بالرئيس مبارك والرئيس حافظ الأسد، اللذين زاراه فى بيته بالساحل الشمالى فى بدايات حكم الرئيس مبارك، على حد علمى كانت تلك الزيارة الشخصية الوحيدة التى قام بها الرئيس مبارك لأديب فى بيته وليس فى مستشفى كما حدث مثلاً مع نجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله الجبانة، لم ينشر الكثير عن تفاصيل تلك الزيارة الفريدة فلم نعرف ساعتها ومن ساعتها هل اختص الرئيس يوسف إدريس بتلك الزيارة لأنه كان قد قرأه وأحبه؟، أم لأن يوسف إدريس كان الكاتب الأكثر شعبية ولمعانا وإثارة للجدل وقتها؟، أم لأن الرئيس الأسد هو الذى طلب تلك الزيارة كما قيل، أم لأنها وقعت بالصدفة أثناء زيارة الرئيسين للمنطقة كما قال البعض الآخر؟، كل هذه الأسئلة تلاشت أمام أسئلة أهم طرحت نفسها علىّ بقوة وأنا أعيد قراءة قصة «المرتبة المقعرة» التى أعتبرها أهم قصص يوسف إدريس وأكثرها جمالا وتكثيفا وعبقرية. سألت نفسى: هل قرأ الرئيس مبارك هذه القصة؟ هل تحدث الرئيس مبارك فى تلك الزيارة مع يوسف إدريس عن تلك القصة المذهلة ودلالاتها وكيف جاءته فكرتها؟ أم أن الحديث لم يتطرق لأدب إدريس وتناول فقط مقالاته الأهرامية التى كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها؟، بعد كل تلك السنين على تلك الزيارة الأدبية اليتيمة هل مازال الرئيس مبارك يتذكر يوسف إدريس الآن؟، ثم السؤال الأهم: هل يمكن أن يعيد الرئيس مبارك قراءة قصة «المرتبة المقعرة» معنا فيتأمّلها ويترحّم على يوسف إدريس؟. تعالوا نقرأ القصة سويا. «فى ليلة الدخلة والمرتبة جديدة وعالية ومنفوشة، رقد فوقها بجسده الفارع الضخم، واستراح إلى نعومتها وفخامتها، وقال لزوجته التى كانت واقفة إذ ذاك بجوار النافذة: انظرى.. هل تغيرت الدنيا؟ ونظرت الزوجة من النافذة ثم قالت: لا لم تتغير. فلأنم يوماً إذن. ونام أسبوعا، وحين صحا كان جسده قد غور قليلا فى المرتبة. فرمق زوجته وقال: انظرى.. هل تغيرت الدنيا؟ فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت: لا.. لم تتغير. فلأنم أسبوعاً إذن. ونام عاماً، وحين صحا كانت الحفرة التى حفرها جسده فى المرتبة قد عمقت أكثر، فقال لزوجته: انظرى، هل تغيرت الدنيا؟. فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت: لا.. لم تتغير. فلأنم شهراً إذن. ونام خمس سنوات، وحين صحا كان جسده قد غور فى المرتبة أكثر، وقال كالعادة لزوجته: انظرى، هل تغيرت الدنيا؟. فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت: لا.. لم تتغير. فلأنم عاماً إذن ونام عشرة أعوام، كانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدودا عميقا، وكان قد مات وسحبوا الملاءة فوقه فاستوى سطحها بلا انبعاج، وحملوه بالمرتبة التى تحولت إلى لحد، وألقوه من النافذة إلى أرض الشارع الصلبة. حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة وأدارت بصرها فى الفضاء، وقالت: «يا إلهى، لقد تغيّرت الدنيا». رحم الله يوسف إدريس. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]