نعم إنه اليوم الثالث من شهر أكتوبر 1973.. هكذا هو الحال في شوارع وحواري مصر، مرارة الانكسار تُسيطر على الجميع كِبارا وصغارا، وويلات الهزيمة لا تُفارق خيالهم، صور شهداء ماتوا هدرا معلّقة على الجدران، أُم ثكلى تبكي وحيدها الذي لم يمُت برصاص الجنود، بل بضربة شمس أثناء مطاردة طائرات الميراج الإسرائيلية له في صحراء سيناء.. "إنت فين يا ابني.. أنت فين يا غالي"!! هكذا تُردّد بدموع لم تتوقّف منذ 6 سنوات. في المركز 10 بوزارة الدفاع غرفة عمليات، رنين الهاتف لا ينقطع، عساكر هنا وهناك يأتون بملفات ويذهبون بأخرى، وغيرهم جالسون على أجهزة يفكّون شفرات رسائل من دول عديدة ترصد الأحوال، والرئيس على مقعده الوثير يجلس متوتّرا في انتظار اجتماع القيادة حتى دخل عليه المشير أحمد إسماعيل. السادات: أخبار خطة الخداع الاستراتيجي إيه يا سيادة الفريق؟ أحمد إسماعيل: حسب توجيهات سيادتك يا فندم وبناء على التفاصيل اللي وضعها الفريق سعد الدين الشاذلي -رئيس الأركان- وجّهنا تعليمات لقادة الجيوش بتسهيل تسريح أكتر من 120 ألف جندي؛ اعتبارا من يوم 4 أكتوبر، وانتهينا من قائمة الضبّاط اللي هيسافروا للعمرة السنة دي. السادات: العساكر دي نقدر نجيبها تاني في وقت قد إيه؟ ماتنساش إن عددهم كبير. أحمد إسماعيل: خطة التعبئة بناء على الوحدات المجاورة للمناطق العسكرية للجنود سهّلت من مسألة التعبئة السريعة دي يا فندم. يعود السادات إلى شروده من جديد، والفريق إسماعيل يبارح الغرفة لتحضير اجتماع القيادة قبل أن يغادر إلى سوريا لتنسيق التفاصيل الباقية للمعركة مع قادة الجبهة هناك. ولمن لا يعرف المشير أحمد إسماعيل؛ فهو القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وقد قرّر الرئيس السادات تعيينه وزيرا للحربية، في أوقات عصيبة سادت فيها حالة اليأس والإحباط؛ وكان الرجل متقاعدا واستجاب بكل حماس لقرار الرئيس بإعادة تعيينه، مفضّلا الموت وسط عساكره وأولاده عن الموت على سريره في انتظار المرض كي يفتك به. الوضع في الوحدات الميدانية بالجيوش الثلاثة كان مثيرا لحيرة الجنود والضبّاط الصغار، كيف يتمّ تسريح أكثر من 120 ألف جندي، بينما العمل هنا يسير على قدم وساق، قوات مختلفة يتمّ حشدها يوما بعد الآخر، أسلحة ثقيلة من وحدات المدفعية والدفاع الجوي والمركبات يتمّ تجهيزها؛ وبطاريات صواريخ بمختلف أنواعها يتمّ تركيبها، هل نحارب أم نستسلم للهزيمة؟ هل ننتصر لكرامتنا ونزيل العار أم نتقبّل المفردات التي يُمليها علينا الواقع ونتعايش مع المسألة كفلسطين ثانية؟ وهناك في تل أبيب وفي مركز قيادة الجيش الإسرائيلي تتحرّك جولدا مائير -رئيسة وزراء إسرائيل- في حركات منفعلة مخاطبة موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي: أمامي تقارير تتحدَّث عن مناورات عسكرية للمصريين على الضفة الغربية من قناة السويس؛ هل لديك تفسير؟ دايان: المسألة برمتها لا تتعدَّى كونها مشروعا تدريبيا ساذجا اسمه (التحرير - 41) يستعرض فيه المصريون عضلاتهم، وهم في حقيقة الأمر يستعرضون ضعفهم؛ فاتصالاتهم اللاسلكية غير مشفّرة ومكشوفة لنا، ونعرف كل تفاصيلها، وفي أسوأ الظروف فالطيران الإسرائيلي قادر على ردع أي مغامرة مصرية. جولدا مائير: وهل حشد أكثر من 31 كتيبة صواريخ دفاع جوي على الجبهة السورية في هضبة الجولان هو الآخر مشروع تدريبي ساذج؟ دايان: ربما يكون محاولة من الجبهة السورية للردّ على إسقاطنا 13 طائرة ميج لهم يوم 19 سبتمبر الماضي، ولكن هناك على الجبهة السورية أكثر من 4 ألوية مدرعة وكتيبة مشاة إسرائيلية، وبالتالي فأي طلقة ستخرج من الجانب السوري ستكون إشارة لبدء الجحيم. تصمت جولدا قلقة وغير مقتنعة؛ فيستطرد دايان: "إذا عَبَر المصريون قناة السويس؛ فسيجدون أنفسهم في وضع لم يتأهلوا لمواجهته، وسنأتي إليهم من كل جانب، وسيكون موقفهم أصعب كثيرا مما هم فيه الآن حيث تحميهم قناة السويس". ومن جانبها كانت الصين -القوة الناشئة في ذاك الوقت- تُهاجم موقف القوتين العظميين (الولاياتالمتحدةالأمريكية، والاتحاد السوفييتي)؛ لاتفاقهما على تمييع الموقف في الشرق الأوسط، والإبقاء على حالة اللاسلم واللاحرب بما يخدم مصالحهما الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، بينما القيادة المصرية تفتعل الضعف وتستغيث، وإسرائيل تُبالِغ في القوة وتسخر، والمواطن المصري منكسر حزين، والواقع أن طبول الحرب تقرع في صمت لا يسمعها سوى قيادات الجيش الرفيعة فحسب. وفي الحلقة القادمة -إن كان في العمر بقية- سوف نتعرَّف على الخطأ الفادح الذي كاد يُكلِّف القيادة المصرية ثمنا بالغ التكلفة وهو تأجيل الحرب لأجل غير مسمَّى، وكيف حُلّت مشكلة الساتر الترابي الإسرائيلي العملاق. أقرأ أيضا عندما كانت النمسا جزءا من خطة الخداع الاستراتيجي ضد إسرائيل في حرب أكتوبر حتى لو نطق أبو الهول وتحرّكت الأهرامات.. لن يُحارب السادات!!