عندما انتهيت من رواية "ميرامار" المرة الأولى تساءلت: ماذا لو تواجد بنسيون "ميرامار" الآن في الإسكندرية وعقب الثورة؟ أدّعي أنني لست قارئة جيّدة لنجيب محفوظ، ولكن رصيد قراءتي له يجعلني أعرف الكثير عن أسلوبه الرصين، والذي يبدو أحيانا في بعض الأعمال مثل "أصدقاء السيرة الذاتية" صعبا، ويحتاج العودة له أكثر من مرة، أما بالنسبة ل"ميرامار" فالوضع كان مختلفا؛ فالرواية تمتاز بأسلوب سلس على الرغم من تعدد الرواة واختلافهم؛ فإن منهم من كان أديبا. تبدأ الرواية بشخصية عامر وجدي؛ الصحفي والأديب الذي اعتزل الحياة السياسية بعد أن وصل لسن الثمانين؛ حيث يذهب ليُقيم إقامة دائمة في بنسيون "ميرامار"، يتخلل حديثه أحيانا ذكريات عن الصحافة والعمر الذي قضاه فيها، وعدم استطاعته مواكبة العصر.. وعَبْر تلك الذكريات يستعيد حوادث مختلفة عن الصراع السياسي بين الأحزاب المختلفة آنذاك، وكيف أن هناك مَن رفعته ثورة يوليو للسماء، وخسفت البعض الآخر للأرض، ثم يشترك مع ماريانا (صاحبة البنسيون) -التي تجمعه بها صداقة قديمة- في استرجاع الماضي قبل التأميم، وتردد ماريانا دائما: إن البنسيون قبل الثورة كان "بنسيون سادة". وماريانا رغم كهولتها فإن شبابها كان مزدهرا، وعاشت في الإسكندرية ومات زوجها الأول في ثورة يوليو، وتزوجّت مرة ثانية، وقضت الثورة على ثروتها كما قضت على أغلب أصحاب الثروات في ذلك الحين. ثم يصل إلى البنسيون طُلبة مرزوق الذي كان أحد المنتمين للنظام السابق، ولكن تطوله الثورة فتحجز على ثروته، فيهيم إلى بنسيون "ميرامار"، ثم نقابل "زهرة" البحيرية التي هربت من أهلها كي لا تتزوج مُسنّا، وجاءت البنسيون تطلب عملا من ماريانا اعتمادا على علاقة أبيها بها. بعد ذلك يصل سرحان البحيري الذي يعمل وكيل حسابات، ويراه الجميع مستنفعا من وضع البلاد بعد الثورة، وحسني علاّم أحد أعيان طنطا، وأخيرا منصور باهي الذي يعمل كمذيع بمحطة الإسكندرية. يسرد عامر وجدي علاقة زهرة بسرحان البحيري التي انتهت بخيانته لها ومقتله. تبدو زهرة شديدة الشبه بحميدة في "زقاق المدق"؛ فالطموح متشابه، إلا أن طموح زهرة كان لرفع وضعها الاجتماعي بالتعليم والدراسة، ونلمح هنا الصراع الأزلي بين القرية والمدينة، وكيف أن الهارب من القرية يسعى دائما للأمل والتعليم والحب، ويرى أن توفّرهم في المدينة وحدها. بعد انتهاء عامر وجدي من السرد يبدأ حسني علام، ومن البداية نلمح تغيّرا كبيرا في اللغة، وحتى في الإحساس بالمدينة التي يصفها علام وجدي بأنها: "قطر الندى.. نفثة السحاب البيضاء.. مهبط الشعاع المغسول بماء السماء.. وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع". بينما يصف حسني علام المدينة والبحر بأنه: "أسود محتقن بزرقة.. يتميّز غيظا.. يكظم غيظه.. تتلاطم أمواجه في اختناق.. يغلي بغضب أبدي لا متنفّس له". حسني علام من أعيان طنطا، وورث مائة فدان لم تستطِع الثورة تصفيتها، ولا هَمّ له سوى مغازلة الجميلات، وطوي الإسكندرية أسفل عجلات سيارته المسرعة، وهو مهموم طيلة الوقت بضيق الإسكندرية على أحلامه. كما يحكي عن خلافه مع سرحان البحيري على حب زهرة، وفرحة بانتهاء العلاقة، ومحاولته استمالتها بكل الطرق. يليه منصور باهي المذيع بمحطة الإسكندرية، شاب في الخامسة والعشرين، ذو وجه رقيق بقسمات صغيرة وجميلة. يسترجع منصور طوال الوقت ذكرياته أيام الجامعة مع السياسة والأصدقاء الذين اعتقلوا، وعلاقته بزوجة أحدهم، كما يسرد علاقته الأخوية "الغريبة" بزهرة. وزهرة الريفية -بقسمات وجهها السمراء الريانة- كانت محورا لأبطالنا الأربعة؛ حيث أسهم وجودها كخادمة بالفندق في أن تتعامل معهم كلهم، وأحبّها ورغب فيها كل منهم على طريقته، لكن بالرغم من بساطتها؛ فإن قوتها معهم كان رد فعلها تجاههم، لكن في النهاية استسلمت للحب حتى قضى عليها، فكأن محفوظ يرغب في رسالة أن المدينة قد تعبث بأخلاق الضعاف وإن استقاموا. بعد منصور يسرد سرحان البحيري، ثم يعود عامر وجدي لسرد النهاية، بعده يسرد سرحان البحيري، ثم يعود عامر وجدي لسرد النهاية. تكمُن أهمية العمل في أنه أول عمل يتناول فيه محفوظ الواقع السياسي في مصر وقتها؛ ربما لأنه ضمن أعمالا أطلق عليها إرهاصات النكسة. شخوص العمل كلها لا تنتمي للإسكندرية، ولا تلمح لوطنها كأنها انسلخت منه والإسكندرية على صغرها استوعبت كل تلك التناقضات والاتجاهات المختلفة وقتها. وهناك صراع دائم في وجهات النظر؛ تمثّل اتجاهات متباينة تشعر بوجودها حتى اللحظة، نستطيع أن نتلمّسها من حوار يدور بين حسني علام وسرحان البحيري؛ حيث يقول: - نحن مؤمنون بالثورة، ولكن لم يكن ما سبقها فراغا كله. فقال بعناد مثير: - بل كان فراغا.. - كان الكورنيش موجودا قبلها، كذلك جامعة الإسكندرية! - لم يكن الكورنيش للشعب، ولا الجامعة.. ويمكننا أن نستنبط من الحوار مدى الصراع الأزلي بين مؤيّدي أي ثورة ومعارضيها. وتمّ تحويل الرواية منذ ثلاث سنوات إلى أوبرا بالعامية المصرية، وهي ثاني تجربة مصرية في ذلك المجال من بعد أوبرا "ثلاث أوبرات في ساعة" المستوحاة من قصص ليوسف إدريس. وتعدّ أوبرا "ميرامار" ثمرة تعاون مع مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية، ويخرجه المصري محمد أبو الخير، وأشعار سيد حجاب، بقيادة الموسيقي شريف محيي الدين.