فجأة، دوت تلك الفرقعة القوية، في سماء مدينة (الرحاب) المصرية، ومعهما ارتجَّت البنايات، لأوَّل مرة منذ فترة طويلة، ارتجاجة عنيفة نسبياً، حتى أن (جو) وثب من فراشه منزعجاً، هاتفاً: - ما هذا؟! التفتت إليه زوجته (إيناس)، في هدوء لا يتفق مع انفعاله، وهي تبتسم قائلة: - إنها تلك الدوريات الجوية المعتادة.... المفترض أنك قد ألفتها.
اعتدل جالساً على فراشه، وهو يقول، في صوت يوحي بأنه لم يستيقظ كلية بعد: - دوريات جوية؟! واجهته، قائلة: - تلك الطلعات الجوَّية، التي تقوم بها المقاتلات المصرية؛ لحماية سماء (مصر)... ألم تخبرني بهذا أكثر من مرة. قال في ضيق: - لم تكن أبداً بمثل هذه القوة. غمغمت: - هذا صحيح... ثم أضافت في اهتمام: - ألم تخبرني من قبل -باعتبارك خبير صوتيات- أن هذه الفرقعة تحدث، عندما تخترق المقاتلات حاجز الصوت؟! أجابها، وهو ينهض من الفراش: - هذا صحيح: ثم أضاف: في مصر، وهو يدس قدميه في شبشب منزلي بسيط: -ولكنها لم تكن بهذه القوة. ابتسمت هذه المرة، دون أن تجيب، في حين أضاف هو في صرامة: - ثم إنني لست خبير صوتيات.... أنا خبير في لهفة الأصوات. سألته في دهشة: - وما الفارق؟! أجابها، متجهاً نحو الحمام الملحق بحجرة النوم: - فارق كبير.. رسالة الدكتوراه التي قدمتها، وكل الأبحاث التي قمت بها، كانت تستهدف تحديد ما يرغب أي كائن في قوله، من دراسة صوت فحسب. ابتسمت، وهي تقول معابثة: - أي كائن؟! أجاب في صرامة أكثر: - نعم.. أي كائن... حتى الكلاب والقطط... كلها تعبَّر عن نفسها وعما تريد، باستخدام أصوات ذات نغمات خاصة، ودراستي تعتمد على تحديد تلك النغمات، وربطها ببعضها البعض؛ لتحديد متطلباتها. بدا عليها اهتمام حقيقي، وهي تقول: - أمر شيق بالفعل. بدت عليه السعادة لقولها، وقال في لهجة، تحمل شيئاً من الزهو: - هذا يختلف كثيراً، عن خبراء الصوتيات العاديين. غمغمت، وهي تلتقط قطتها، وتداعبها في حنان: - بالتأكيد. كان يهم بدخول الحمام، عندما دوت فجأة فرقعة أخرى، أكثر عنفاً من سابقتها، حتى أن المنزل كله ارتج في قوة، وأطلقت القطة مواء مذعوراً، وهي تثب من بين يدي (إيناس)، وتعدو لتختفي أسفل الفراش، في حين تشبَّث (جو) بقائم الباب، خشية السقوط، وشهقت (إيناس) هاتفة: - رباه!..... إنها قوية للغاية. انعقد حاجبا (جو)، وهو يغمغم، في قلق شديد: - هذا يتجاوز كل المعتاد. امتزجت غمغمة بصوت طائرات تنطلق، محلَّقة على ارتفاع منخفض، فقالت (إيناس) مذعورة: -ماذا حدث؟!... هل يشن الإسرائيليون علينا حرباً مفاجئة؟! تنازل (جو) عن فكرة دخول الحمام، وهو يسرع نحو النافذة، قائلاً في توتر: - وفقاً لمعلوماتي الفيزيائية، لا يمكن حدوث هذا؛ إلا إذا.... لم يكن قد أتم عبارته بعد، عندما تراجع فجأة بحركة حادة، وهو يطلق شهقة قوية، جعلت (إيناس) تثب من مكانها، هاتفة: -ماذا حدث؟! فوجئت بعينيه متسعتين، على نحو لم تعهده من قبل، وبصوته يرتجف، في انفعال غامر، وهو يشير إلى النافذة بأصابع مرتجفة، هاتفاً: - هناك... هناك... كان من الواضح أن انفعاله يعرقل خروج كلماته من بين شفتيه، فاندفعت (إيناس) بدورها نحو النافذة، محاولة رؤية ما أثار انفعاله إلى هذا الحد، ولكنها لم تلمح في السماء سوى مجموعة من المقاتلات، تبتعد عند الأفق، على ارتفاع منخفض، لم تشهد مثله من قبل، فالتفتت إليه، تسأله في حيرة: -هل كانت قريبة للغاية؟! ظلَّ لحظات يلوَّح بذراعه في انفعال، قبل أن يهتف: -لقد كانت تطارد ذلك الشيء. أكشن: القادم (1).. دوي
عادت تلقي نظرة مندهشة عبر النافذة؛ ولكن حتى تلك المقاتلات كانت قد اختفت في الأفق، فسألته، وقد شملتها حيرة كبيرة: - أي شيء؟! ارتجف صوته هذه المرة، من فرط الانفعال، وهو يقول: -الطبق. غمغمت، ودهشتها تتصاعد: - طبق؟! التفت إليها، وقد حملت ذعراَ حقيقياً، وهو يجيب مفسراً: - طبق طائر. لم تصدَّق أذنيها في البداية؛ فهتفت به: - طبق ماذا؟!... هذا مستحيل! بدا شديد العصبية، وهو يلَّوح بسبابته نحو النافذة، كما لو أنه هناك شبح يقف عندها، وهتف: - لقد رأيته... طبق طائر، كالذي تتحدَّث عنه الروايات الخيالية: ثم حملت ملامحه حيرة شديدة، وهو يكمل، في لهجة شخص، ارتبكت كل المعارف في ذهنه: - ولكنه يختلف. كانت عاجزة عن مناقشته، في أمر لم تؤمن بوجوده يوماً، ولكن تلك الحالة الانفعالية التي كان عليها، جعلتها تغمغم، وقد انتقل إليها انفعاله: -فيم؟! راح يلَّوح بذراعيه؛ وكأنما يحاول رسم صورة لذلك الشيء في الهواء، قبل أن يجيب، ولم يفارقه انفعاله بعد: - إنه يبدو في البداية مستديراً، تماماً كما يرسمونه في الكتب الهزلية، ولكنه عندما اقترب، بدا شكله مختلفاً.... لم يكن مستديراً؛ وإنما كان عبارة عن مجموعة من الأضلاع، بينها فراغات، وتندفع بسرعة كبيرة؛ بحيث تبدو بالفعل أشبه ب.... ب... صمت دفعة واحدة؛ فأومأت برأسها، تستحثه على الاستمرار؛ فغمغم، في لهجة أشبه بيأس ذاهل: - بطبق. لم يكن بوسعها أبداً استيعاب هذا.... ولم تحاول حتى فيما مضى... تلك الروايات الخيالية عن الفضاء، ومخلوقاته، والأطباق الطائرة، والأجسام عديمة الهوية، كانت دوماً بالنسبة لها أشبه بنكتة كبيرة... نكتة سخيفة جداً.... نكتة لم تصدَّقها أبداً، ولم تمنح نفسها، ولو لحظة، فرصة التفكير فيها، أو الشك في احتمال كونها حقيقية... ولكن ها هي ذي الحقيقة تصل إلى بيتها....إلى زوجها... وإلى عقلها....
وفي محاولة منها للدفاع عما تؤمن به، قالت في حذر: - ربما هي طائرة جديدة، مازالت في طور التجريب. هزّ رأسه في قوة، قائلاً: - ليست طائرة. سألته في سرعة، وبنفس اللهجة الدفاعية: - ومن أدراك؟!.. بدا حائراً لحظة، قبل أن يجيب، في تردَّد شديد: - تلك الذبذبة.... لم يكمل عبارته... ولم يحاول حتى إكمالها...
ربما لأنه لم يستطع شرح الأمر لها بالتحديد، حتى مع خبراته في الفيزياء وذبذبات الصوت.... لقد مرَّ ذلك الشيء أمامه، وسرت مع مروره قشعريرة قوية في جسده، في اتجاه اندفاع ذلك الشيء... لم تكن قشعريرة خوف، أو من أثر المفاجأة، بل كانت أشبه بما شعر به، وهو يجري تجاربه الأولى، عندما أخضع معمله كله لموجات كهرومغنطيسية قوية.... نفس الشعور مرَّ بجسده، مع مرور ذلك الشيء أمامه، ثم ذهب مع ابتعاده.... وهذا قد يعني أن ذلك الشيء ينطلق باستخدام طاقة كهرومغنطيسية قوية، لم تستخدم بعد في عالمنا.... حتى آخر معرفته على الأقل... "ما تلك الذبذبة يا (جو)؟!..." ألقت (إيناس) سؤالها في توتر بالغ، فالتفت إليها في حيرة كبيرة، دون أن يدري ماذا يقول، فبدت عصبية، وهي تضيف: - لا تتركني دون تفسير. أراد أن يخبرها..... أراد حقاً أن يفعل، ولكن قبل أن يقدم على هذا، دوت فرقعة أخرى... فرقعة أكثر قوة، امتزجت بدوي آخر عنيف.... دوي انفجار.... رهيب. يتبع