لو أنك -عزيزي القارئ- تظن أنك سوف تقرأ مقالاً عن حياة الشاعر الذي عاش حياته مغرقا في الأحزان, وقصص الحب الملتهبة, ينام النهار ويسهر الليالي من أجل كتابة الأشعار في حياة بوهيمية؛ فإنني أعتذر لك مسبقا, لأن هذه لم تكن حياة الشاعر كامل الشناوي كما يظن الغالبية العظمى من أبناء جيلنا بكل أسف. أزهري ابن أزهري فرغم أن كامل الشناوي ولد بمحافظة الدقهلية في 7 ديسمبر 1910 إلا أن عمل والده وعمه في الأزهر جعل الأسرة تقطن في حي السيدة زينب, لينشأ كامل في بيئة دينية صارمة؛ فكان الشاب الوحيد الذي يرتدي العمة والجلباب الأبيض مثل شيوخ الأزهر وهو لا يزال في الخامسة عشرة من عمره, والتحق بالتعليم الأزهري؛ ولكن موهبته الشاعرية أفصحت عن نفسها سريعاً حتى وصل صدى أشعاره إلى أمير الشعراء أحمد شوقي, وأعجب شوقي بأشعار الفتي البدين؛ فأفصح كامل الشناوي لأمير الشعراء عن رغبته في ترك التعليم الأزهري والعمل في مجال الأدب؛ فقام أحمد شوقي بتزكية تعيين كامل الشناوي صحفياً في جريدة كوكب الشرق التي ترأّس تحريرها حافظ بك عوض. صديق الملك.. وصديق الثورة!! وهكذا كانت بداية كامل الشناوي صحفية خالصة, وعرف عن كامل الشناوي تعففه, وجديته في العمل, إضافة إلى خفة ظله وأنه "صاحب نكتة", وعلى عكس ما نعرفه عن هذا الأديب, لم يعيش في حياة منعزلة أبداً, بل مد شبكة علاقاته الإنسانية إلى الجميع, فصادق أهم سياسيي عصره؛ فكان من القلة النادرة التي لها علاقات جيدة مع حزب الوفد وأحزاب الأقلية؛ بل وبالقصر الملكي أيضاً حينما أصبح كامل (بك) الشناوي عام 1951 بقرار من الملك فاروق. وفي جريدة كوكب الشرق اكتشف عميد الأدب العربي طه حسين موهبة كامل الشناوي الصحفية؛ فجعله سكرتيراً للتحرير؛ فكتب كامل الشناوي العديد من الخبطات الصحفية التي جعلته من أهم صحفيي عصره, ثم انتقل إلى جريدة روزاليوسف, وكان إنتاجه الشعري قليلاً جداً مقارنة بإنتاجه الصحفي؛ فقد عشق عمله ك(كاتب عمود)؛ مما جعل جريدة الأهرام تسعى إلى استقطابه وهو ما حدث بالفعل فصار أهم صحفي في مصر في شئون البرلمان. واستمر كامل الشناوي في مسيرته الضخمة, وحينما أسس حزب الوفد جريدة المسائية اختار كامل الشناوي لكي يصبح رئيس تحرير الجريدة, وساهم في تأسيس نقابة الصحفيين المصرييين في 31 مارس 1943 وانتخب عضوا في أول مجلس لإدارتها ثم انتخب عضواً في مجلس النواب المصري عام 1945, فتحول الصحفي إلى سياسي بارع وخطيب مفوه. ولكن العمل السياسي لم يأخذ كامل الشناوي من حياته الأدبية فصدرت له العديد من الأعمال الأدبية مثل: ساعات, لقاء معهم, الذين أحبو مي, حبيبتي رسائل حب, ثم أصبح رئيساً لتحرير أخبار اليوم مع مصطفى وعلي أمين؛ فلما قامت ثورة 23 يوليو 1952 ظن البعض أن كامل الشناوي سوف يكون من ساسة وأدباء العصر الذي ولي نظراً لصداقته مع زعماء الأحزاب القديمة؛ فإذا بهم يفاجئون بكامل الشناوي رئيساً لتحرير جريدة الجمهورية لسان حال الثورة. صديق الحكومة.. وصديق المعارضة!! لم يكن كامل الشناوي صاحب خفة ظل سابقة لعصره فحسب؛ بل كان قادراً على جذب انتباه الساسة والأدباء والنقاد عبر شخصيته الفريدة؛ فكان يتناول الغذاء مع محمد محمود رئيس حزب الأحرار الدستوريين، ثم يسهر المساء مع غريمه مكرم عبيد سكرتير عام حزب الوفد، دون أن يُغضب الطرفين, أو يتخلى عن مبادئه، وحينما انتخب عضواً في مجلس النواب انتخب عن دائرة لا تنتخب إلا من يرضى عنهم القصر الملكي؛ فشكل بعلاقاته الواسعة وقدرته على اكتساب حب الجميع ظاهرة إنسانية لم تتكرر في تاريخ الصحافة, وحاول بعض مؤرخو الصحافة أن يضعوا محمد التابعي في نفس المكانة؛ إلا أن كامل الشناوي يتفوق على التابعي في قدرته على اكتساب حب وثقة ثوار يوليو؛ مما جعله محل ثقة وتقدير لدى أقطاب وزعماء العصرين, الملكي والجمهوري. مقالب نبيلة!! وتُوج كامل الشناوي كواحد من أبرز ظرفاء المجال الأدبي في عصره بشهادة زملائه الذين كانوا يتسابقون في السهر معه للتزود بلمحات شخصيته المرحة؛ غير أن ما كان يراه البعض يندرج في عداد خفة الظل كان في بعض الأحيان عملاً إنسانياً نبيلاً؛ فعلي سبيل المثال امتلك كامل الشناوي موهبة نادرة تكمن في قدرته المذهلة على تقليد الأصوات, وفي الأربعينات دب خلاف أدبي بين توفيق دياب وعبد القادر حمزة, وكلاهما من جبابرة الصحافة في هذا العصر, وتطور الخلاف إلى خوض في المسائل الشخصية بشكل جارح لكلا الطرفين؛ فإذا بكامل الشناوي يجري اتصالاً هاتفياً بتوفيق دياب متقمصاً صوت عبد القادر حمزة, ثم يتصل بعبد القادر حمزة مقلداً أسلوب توفيق دياب, وفي كلتا المحادثتين أغدق كامل الشناوي على الطرف الآخر كلمات الثناء والاعتذار حتى بكي توفيق دياب في المحادثة متأثراً بحديث عبد القادر حمزة المزعوم، وانتهى الخلاف بين عملاقي صحافة الأربعينيات. ورغم قلة إنتاجه الشعري إلا أن قصائده تغنى بها كبار مطربين العالم العربي؛ فغنى له محمد عبد الوهاب قصيدة "الخطايا" وأم كلثوم قصيدة "على باب مصر" وفريد الأطرش قصيدة "عدت يا يوم مولدي" ونجاة الصغيرة قصيدة "لا تكذبي". وزحف المرض سريعاً إلى روحه المرحة؛ فتوفي دون الخامسة والخمسين من العمر في 30 نوفمبر 1965 بعد حياة حافلة في ميادين السياسة والصحافة والشعر والأدب.
لقطات من حياة كامل الشناوي * وطني وما وطني سوى ديني فلا عجب أصاول دونه وألاحي أزجي له الصلوات.. أحمل همه عنه.. أضمد جرحه بجراحي بهواه مختالاً شمخت بهامتي وخفضت من فرط الولاء جناحي
* لم يكن كامل الشناوي أديبا عابثا كما يظن الكثيرون, بل كان سياسياً وصحفياً اقترب من رجالات الحكم في العصرين الملكي والجمهوري.
* كان جالساً في سهرة فنية مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب, وقدمت زوجة عبد الوهاب قطعة من الجبن الأبيض لكامل الشناوي, ولما انتهى منها طلب من عبد الوهاب المزيد، وتكرر الأمر أكثر من مرة حتى أنهى كامل الشناوي في تلك الليلة كيلو جراماً كاملاً من الجبن الأبيض، وأصبحت تلك الواقعة نكتة معروفة بين الشناوي وعبد الوهاب.