كرة القدم هي حرب عندما تكون بين مصر والجزائر، يجب أن أتعلم ما يحدث في عالم كرة القدم؛ لأن هذا سياسة بكل معنى الكلمة، خلافات وأزمات دبلوماسية. وهناك اتهامات وكراهية بين البلدين وصلت إلى مستوى عالٍ لم نشهده من قبل.. اسمحوا لي أن أعرض عليكم مشاهد لحافلة المنتخب الجزائري بعد أن اعتدى عليهم المصريون. الجزائريون كانوا في حالة صدمة. الجزائريون هم الأشرار الآن في الشارع المصري، فالمصريون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم الطيبون في حين أن الجزائريين هم الأشرار بنظرهم.
أى عقلية حمقاء هذه؟ بدل أن تُطعموا شعوبكم تقومون بإرسالهم إلى الملاعب؟ "في إشارة إلى قيام البلدين بتمويل سفر المشجعين إلى السودان". برنامج "لندن إت كرشنباوم"
أحد أكثر البرامج شعبية في إسرائيل
قامت السلطات المصرية بترحيل مراسل صحفي إسرائيلي الجنسية جاء للقاهرة لتغطية مباراة مصر والجزائر، وتبنى موقفاً مناصراً للجزائر، وشجع الجزائريين على الدخول في مواجهات مع المشجعين المصريين لعرضها في القنوات التليفزيونية الإسرائيلية. وقال حسين العبرة: "شعرت بنفس مشاعر عزام عزام لحظة وصولي لإسرائيل عبر منفذ طابا، ونجاتي من الاعتقال والتحقيقات التي استمرت يوماً كاملاً في مصر". صحيفة يديعوت أحرنوت
ما قرأته في السطور السابقة.. هو بعض الجمل التي قيلت على مدار الأيام السابقة حول المباراة التاريخية بين مصر والجزائر في الإعلام الإسرائيلي الذي اهتمّ اهتماما بالغا قبل المباراة الأولى وحتى نهاية المباراة الثانية.. لدرجة أنه كانت هناك مطالب للتليفزيون الإسرائيلي بإذاعة المباراة الثانية في السودان بدلا من التقارير الإخبارية في الفقرات الرياضية حتى يتسنى لهم مشاهدة العرب وهم متناحرون.. الأمر منذ البداية كأن أشبه بصبّ الزيت على النار من جانب الإعلام الإسرائيلي الذي رغم انشغاله بحزمة من القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية إلا أنه خصص المجال الواسع لمناقشة لقاءات مصر والجزائر واعتبارها مواجهة حربية "وصفها بأنها الحرب العالمية الثالثة" تنم عن تغلغل العداوات بين الأشقاء وأن كلمات الود المتبادلة في اللقاءات الدبلوماسية ما هي إلا خدعة، وأن الحقيقة من خلال الإعلام المصري والجزائري الذي استمر في سجال وتبادل للاتهامات لقرابة شهر كامل قبل المباراة الأولى المرتقبة، واستمر بحدة أكبر قبل وبعد المباراة الثانية.. في شماتة وتشفٍّ واضح وكأنهم يقولون: إذا كان هذا حالكم مع بعضكم البعض وأنتم أبناء أمة واحدة، فماذا ستفعلون معنا وأنتم ما زلتم تصرون على أننا عدوكم الرئيسي والوحيد؟! بعد المقدمة الطويلة دي واللي كان طبعا لابد منها.. وبغضّ النظرة كمان عن نتيجة المباراة فالحكاية معادة ومكررة، حكاية نار ملتهبة اشتعل فتيلها وما زال وهجه يتلألأ في سماء الخيبة العربية، "أي نعم خيبة عربية" ولا نجد لها توصيفا أدل من كلمة خيبة، الخيبة التي تجعل دولة عربية شقيقة -الجزائر- تتعامل مع مصر وكأنها راعي صهيون المنطقة العربية، فها هي إسرائيل تتداول بِنَهمٍ أخبار أعلامنا التي احترقت في الجزائر، وشركاتنا التي دُمرت، وأتت النيران على ما فيها وعليها.. مخزن أوراسكوم تيليكوم الذي اشتعل بالكامل بنيران الإخوة الأشقاء.. أبناء صهيون الذين تحدثوا عن قرآننا الذي حرّفته الجزائر، وجثثهم المزعومة التي قتلت وهماً بأراضينا، وشركة مصر للطيران التي دمّرت مكاتبها بفضل سواعدكم الفتية.
وطبعا هنا في مصر "أم العرب" كما ندّعي ونؤكد في كل مناسبة، فيؤسفنا أن نقول إن الأم الكبرى لم تعِ جيدا للنار التي أخذت تزحف شيئا فشيئا على حجرها وسكبت عليه مزيدا من البنزين فرددنا حرق العلم بمثله، ورددنا السباب بمثله، فحوَّلنا إعلامنا لجبهات متفرقة متحاربة، وتحولت الميكروفونات لدانات انطلق منها الجميع في قيادة وتوجيه الهجوم وتحديد الأشخاص الذين يستهدفهم الهجوم، ولم تكتفِ بهذا فحسب بل انطلقت إلى نقل كل سخافات الصحف الجزائرية التي ما زالت في شرنقة المراهقة المهنية، ونقلتها إلى الجمهور المصري؛ كي تحول الرماد المشتعل لنيران، والنيران إلى ألسنة لهب، وإذا لم نتوقف ستصبح هذه الألسنة جحيما يلتهم الجميع مصريين وجزائريين، ولن نجد من يطفئها، بل سنجد من أولاد العم (أبناء صهيون) من ينفخ فيها حتى تأكلنا أحياء، وسلم لي بقى على العروبة.
الموضوع كده ببساطة إن اللي حصل ورغم كونه تحت عنوان كبير "مباراة لكرة القدم" يعني رياضة في النهاية ومنافسة شريفة إلا أن الأمور أخذت وما زالت تأخذ شكل العداء والحرب عندما تدخّل فيها السلاح الأبيض والدماء والسباب والعراك بين جمهور الفريقين.. والحقيقة أن إسرائيل هي المستفيد الوحيد بين خاسرين هما مصر والجزائر، فمثل هذه اللقاءات تتكرر دائما واستمرارها من استمرار مسابقة عريقة مثل كأس العالم، لكن الشيء الوحيد الذي سيجعلها في الذاكرة هي الأحداث التي صاحبتها على مدار أشهر، ومدى العداوات التي ظهرت حتى انطلاق صافرة النهاية، والنتيجة هي شماتة إسرائيلية من العرب؛ إذ وجدوا سعادتهم في خلاف بين البلدين العربيين، مع استعادةٍ لهزيمتها لمصر في حرب 1967، واستعباد الفرنسيين للجزائريين، وطبعا مع تمني مباراة مماثلة بين حركتي فتح وحماس لتقضي كل منهما على الأخرى..
يعني القضية خرجت أصلا من أنها مبارة كرة قدم، لكن ماحدش سأل نفسه: مصر والجزائر كسبوا إيه من مبارزة كلامية غير مزيد من عنف لشعوب تعاني في الأصل من كبت على جميع المستويات؟ وزي ما بنقول كده "ما صدقت" تلاقي حاجة تنفّس بيها عن نفسها بالعنف.. بالهتاف.. بالأغاني.. بالصراخ في الشوارع.. الإجابة أكيد لأ.. خرجوا مهزومين ومكشوفين ومجروحين بعد ما دقّوا آخر مسمار في نعش عروبة زائفة وكلمات تقال "فضّ مجالس" كما نقول..
والخلاصة كانت عند ابراهيم عيسى في مقاله المهم بالأمس: "القضية كلها قضية مواطنين في غالبيتهم شباب مضحوك عليه متوسط الثقافة محبط وهائم بلا مشروع ولا قضية، أقنعتهم وسائل الإعلام المهووسة في مصر والجزائر بأن حب المنتخب هو أسمى معاني الحياة، وأن الآخرين حَقَدة وحَسَدة فأطلقوا الغوغاء من عقالهم، ولخصوا معنى الوطنية في بذاءة اللسان ضد المنافسين، ورمي الطوب على الخصوم، والتهليل والتهبيل في التشجيع، كأننا في حرب ضروس.. فتحولت الأحداث إلى عار حقيقي يلاحق الطرفين وأي محاولة لتبرئة المصريين أو إظهار الجزائريين كضحايا هي محاولة تضليل وتدليس"..
فإذا كان هناك فائز يسجّل في دفاتر الفيفا الآن فهو إسرائيل التي وجدت المبرر القوي الذي لا يقبل الشك أن العرب أعداء أنفسهم، ولكن بعد اعتراف واضح أنها لم تكن من البداية متعمدة أن تدخل على الخط بين مصر والجزائر بل قد تكون فوجئت بحالة الشقاق المتسع بين البلدين، فلم يكن غريبا إذن أن نتخذ منها عدوا، لكن الفرق هنا أن عداءنا لها ظاهر وإخفاؤه دليل خيانة، أما عداء العرب لبعضهم البعض مستتر ولكنهم فقدوا السيطرة عليه ولم يعودوا قادرين على الإخفاء أكثر من ذلك.. والحمد لله فقد وجدوا الفرصة في مبارة لكرة القدم!!..فهنيئا لإسرائيل جيرانها العرب..
بعد المباراة وخروج الخاسر وصعود المنتصر.. ما الذي سيبقى بين البلدين؟ هل العنف سيظل أساس كل لقاء بين العرب بعد ذلك.. أم إن هناك أملا في التهدئة؟