ورحل المُفكر الأكثر من عبقري، والكاتب فوق المبدع د.مصطفى محمود.. في هدوء وصمت، حزم حقائبه، وجلس في انتظار ملك الموت لينقله إلى عالمه الجديد. رحل ليُفجر خلفه حالة من التكرار الممل والسخيف في صحافتنا المصرية والعربية، إثر رحيل كل شخص شهير كنا قد نسيناه ونتناسيناه وقت وجوده حياً يرزق بيننا -وبالطبع هذا المقال هو جزء من هذه الحالة!
الكل عكف على فحص الأرشيف الصحفي لاستخراج كل طرائف ونوادر العالِم الكبير، والبحث عن كل ما هو غريب، ومثير للجدل.. سيرته الذاتية ونشأته.. سر إلحاده.. كيفية عودته إلى الإيمان.. مواقفه مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات.. مقالاته المتميزة.. أجرأ التصريحات والحوارات الصحفية التي أجراها.. حربه الخفية في ومع التليفزيون المصري، وسر منع برنامجه الأشهر "العلم والإيمان"، واستكمالاً لحالة التكرار الممل، والسخافة المفرِطة التي ندور في فلكها طوال الوقت، لعبت الدولة الدور الوحيد الذي لا تجيد سواه طوال الوقت في قتل الميت ثم السير في جنازته والبكاء على إنجازه المفقود، والعويل على افتقاد جهبذ فذ في وزنه، ومن هذا المنطلق واستناداً على هذه النظرية قرر مهرجان الإعلام العربي في نسخته الخامسة عشرة تكريم الراحل د.مصطفى محمود!
نفس نظرية "الميت الشهير" التي نلعبها طوال الوقت على ومع رجال مصر الشرفاء وعلمائها ومثقفيها المحترمين، الذين نسقطهم عمداً من ذاكرتنا المصرية، ليحل محلهم نساء تعاني من "الواوا"، ولا تُجيد سوى اللعب على العجلة أو التغني بالخرطوم أو مع الحصان أو للحمار، وما إلى آخره من ظواهر غريبة ومريبة مكانها الحقيقي "جنينة الحيوان" بالجيزة!!!
نفس النظرية التي بمقتضاها استقبلت "إسرائيل" علماء الذرة الأفذاذ الروس بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، بينما استقبلنا نحن حريم روسيا الجميلات؛ للاستعانة بهن في الكليبات والكباريهات والسيرك والسينما!!
نفس النظرية التي بمقتضاها "طِفِش" عالمنا الكبير د.أحمد زويل بعد أن جاء إلينا بابتسامته الوقورة، وفي عينيه حلم الارتقاء ببلده الأول ودولته الأم، متخيلاً أن "مصر" ستفتح إليه ذراعيها ليُقبّل يدها الكريمة، ويرد إليها الجميل، فما وجد في حضن الأم سوى الأشواك، والأسافين، والضرب تحت الحزام، والتصدي بالمرصاد لكل محاولة جادة يُبادر بها، لوأد الأمل، وقتل الحلم، واغتيال الفكر!
نفس النظرية التي خدعت ملايين من شبابنا المصري والعربي، وصوّرت لهم سراب "الهلس الفني" و"سوء الخُلق الرياضي" أنه الجنة الحقيقية، ليلهسوا طوال الوقت خلف الوهم، بعد أن لعب "العدو الداخلي" قبل "العدو الخارجي" في رؤوسهم، وقضى على تعريف النجاح الحقيقي والأصلي، وحصره في نماذج "هابطة" ساقها باعتبارها القدوة والمثل الأعلى، ليُصبح "الهلس والهجص والإسفاف والابتذال" هم الحل في أشباه الأوطان التي نعيش فيها، وإذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت هي الرقص!
الآن صار هناك أمل آخر للنجاح، بعيداً عن الهلس والابتذال.. أمل تجدونه في خشبات الأموات الذين عرفوا الشهرة، وحظوا باهتمام الدولة، بعد أن ضمهم القبر، وأصبحوا بين يدي رب كريم!
لا تُشغلوا بالكم بالتفاهات والسخافات؛ بحثاً عن شهرة، وطمعاً في اهتمام البلد.. فقط اهتموا بعملكم وخططوا لمشاريع تفيد الدولة، وجهزوا لأفراد المجتمع أفكاراً جديدة، ورؤى متميزة، وسوف يبكي عليكم الجميع ألماً وحرقة فور خروج الروح إلى بارئها، مع التحسّر على أيامكم التي ولت، وعقولكم الذهبية التي فنت، والجموح في الخيال بما كان سيحدث لهذا البلد من نهضة وتغيير شامل كامل على أيديكم إذا ما طال بكم العمر!
ربما حاربوكم في محياكم إذا ما كنتم مفكرين أفذاذاً، وتكتبون مقالات جبارة، حتى أن د.أسامة الباز -مستشار السيد الرئيس محمد حسني مبارك بنفسه- قد يُرسل خطاباً إلى إبراهيم نافع -رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة مؤسسة "الأهرام" الصحفية- مطالباً بمنع مقالاتكم التي أثارت غضب واستياء بعض المنظمات اليهودية، رغم أن "القرآن" نفسه يُخبرنا عن خبث ودهاء ونقض عهود بني إسرائيل.. ربما حاربكم تليفزيون بلدكم بمنع ظهوركم فيه لأسباب غير معلومة رغم شغف الجمهور به، ووعي وثقافة الملايين الذين تشكلوا من خلاله.. ربما تجاهلوا حضور مآتمكم، ولم يواسوا أهاليكم وذويكم بعد الوفاة.. لكن هذا لا يمنع أن يتم تكريمكم في مهرجان القاهرة للإعلام العربي، وحديث الصحف والمجلات وبرامج "التوك شو" عنكم بعد الوفاة؛ لتأخذوا قسطاً من الأضواء، لفترة من الزمن قبل أن تسقطوا مرة أخرى من الذاكرة، ويتخلّف الجميع عن ذكر محاسنكم؛ لأنهم مشغولون بما هو أهم من ذلك بكثير، سواء التفكير في عمل ضريبة جديدة يأخذون بها المزيد من أموال الشعب "الغلبان"، أو تجهيز "أوبريت" وطني جديد حتى (يحكي في المحكي)، لكن العار كل العار أن نحصر الفرحة في البعض وننسى باقي الشرفاء والمفكرين والمثقفين الذين فقط نتذكرهم بعد الوفاة في المهرجان الفلاني الذي يُكرمهم بكلمة من أحد المسئولين وشهادة تقدير "رخيصة"، وكأننا صرنا بلد "بتاعة مهرجانات صحيح"!