مرور تلك "الزفة البلدي" كان كفيلا ببدء الحديث الذي كان يلمع بالفعل في عيني السائق منذ لحظة ركوبي معه، منتظرا أي فرصة مناسبة لبدء الحديث... يتعجب كيف لأحد أن يكون سعيدا وهو (مغفل)؛ هكذا كان تعبيره الواضح والصريح ورأيه الذي لا يشوبه تردد في عريس تلك الزفة.. العريس وعروسه من فرط الفرحة، وربما عدم تصديق أنهما سيتزوجان أخيراً، قد خرجا بنصف جسديهما خارج السيارة من نافذة في سقفها العلوي، ليشاركا "المعازيم" في مراسم الفرح التي كان جليا أنهما لا يحتاجان لأي مساعدة من أي نوع فيها؛ هذا النوع من العرائس الذي يتم وصفهم أن "حد لازم يهدّيهم عشان يكملوا الفرح"؛ فالرقص والتنطيط والغناء والصراخ أيضا هو كل ما يفعلونه وبحماس شديد. بدأ الحديث إذن وانطلقت شارة البدء ومعها حكاية سائق التاكسي، شاب في الحادية والثلاثين من عمره، هذا العمر الذي أخبرني به بعد السؤال الأثير (تديني كام سنة؟)! وهو بالفعل ما أجبت عنه ببراعة مقدرة عمره في أواخر العشرينات، مؤهل عالٍ ولم يحدده؛ لأن العلو نسبي، وخاصة بين أفراد الشعب المصري، وهو مطلّق، مطلّق في تلك السن الصغيرة، وهو أمر لم يعد يثير الدهشة؛ بل على النقيض ذلك شيء متوقع إذا أمعنت النظر في معارفك، وليزيدني معرفة أخبرني أن كل أصدقائه بالفعل مطلّقون أيضا! وعلى ذكر العريس المغفّل أخبرني أن حلاوة الزواج تختفي بعد مرور أول أسبوعين -هذا بعد انخفاض فترة شهر العسل إلى أسبوعين فقط وبالتالي وجب النظر في إعادة التسمية من حيث كلمة (شهر)- وأن له صديقاً كان على وشك الزواج منذ عدة أسابيع، وتبنى هو قضيته وحاول نصحه مرارا وتكرارا للعدول عن تلك الفعلة الشنعاء، وأن يتعلم من تجارب الآخرين؛ إلا أن صديقه كان من الحب والوفاء لحبيبته وقرة عينه أن يصر على الجمع بينهما برباط مقدس لا ينفكّ أبداً إلا عند الطلاق بالطبع. ويقهقه السائق سعيدا لإثبات نظريته مخبرا إياي أن صديقه قد عاد ليخبره بعد مرور عدة أسابيع أنه كان محقا في رأيه وأنه يتمنى لو يعدل عن الزواج. إلى هنا لم أكن أتعجب من شيء، واكتفيت بالاستماع له؛ لأنه بدا أنه لم يكن ينتظر مني سوى منحه فرصة للفضفضة؛ إلى أن بدأ يسرد أفكارا تراوده محدثا نفسه، هو شاب مثقف -من وجهه نظره- ومحيط عائلته وأصدقائه يندرج تحت مسمى أولاد الناس، فئة ليست من العلو ولا الدنو، بقايا الطبقة المتوسطة من أطباء ومدرسين وأساتذة جامعات، وأنه بالفعل كان يدرك ما معنى كلمة زواج وبيت واستقرار وعائلة وأطفال، ويتعجب أن زوجته كانت الاختيار الأمثل إلا أن قصتهما لم تكلل بالنجاح. أخبرته أنه ربما كان على حق فيما قال، وإن كان هو واعياً بتلك المفاهيم فربما لم يقابل من الطرف الآخر وعيا كوعيه، فاستراح لهذا التفسير وهدأ باله، وهذا لأن إلقاء اللوم على أحد الطرفين أمر مريح. وتغلباً على مشكلة الوحدة وكطريقة فعالة للنسيان قام بتركيب وصلة دش وزدت عليها نصيحة أن يأتي ببلاي استيشن 3، وليذهب العالم إلى الجحيم، وهكذا تكون الحياة الحلوة الملونة مليئة بأجهزة التحكم عن بعد دون التعب في خوض تجارب إنسانية مع آخرين لا تأتي سوى بالفشل نتيجةً. فلسفته إلى حد ما لن يقبلها من سيقرأ أو يستمع لتلك القصة المكررة؛ فليس معنى أن يفشل أحدهم في قصة ما أن يمضي بقية حياته وحيدا يتجرع مرارتها في صمت بمرور السنين، رغم استطاعته أن يجرّب مرة أخرى، في حين أنه أخبرني أن فكرة الزواج من أخرى كانت فاشلة بالنسبة له بعد أن تقدم لإحداهن وأحسسته أنه "كسر" على حد تعبيره، وقادم لها بعد الاستخدام الأول؛ فلم يرُقْ له هذا الإحساس، ولن يتزوج أرملة بأطفالها لأنه "يا دوب شايل همه". شباب مطلقون وفتيات مطلّقات وفتيات عوانس في سن العشرين، مجموعة من العلاقات الاجتماعية الفاشلة من كل النواحي، أين الخطأ إذن الذي وصل بنا لهذا الحال؟ تذكرت على ضوء حكايته عددين متتاليين في جريدة الأهرام ليس من وقت بعيد، في بريد الجمعة لفتيات في عذاب لأنهن لا يجدن بهن عيبا ليصلن لسن العنوسة؛ غير مقتنعات بما يقف في الطريق عائقا لهذا الحد، ليتهن يقرأن تلك القصة. ومن كل التفسيرات النفسية والاجتماعية والدينية التي ظهرت لتفسر تلك الظواهر، العنوسة أو الطلاق المبكر. لم أجد تفسيرا واحدا مقنعا أو جامعا لتلك الحالات، لتجد كل المتناقضات مجتمعة بين من يحلم بالزواج من التي يحبها ويعاني ضيق ذات اليد، ومن تحلم بمن يتقدم لها وتخشى العنوسة، بين من طلقت وهي مازالت طفلة تحمل طفلا آخر، ومن هي مرتبطة بواحد وتبقي آخر للطوارئ والخروج والدخول المتكرر للكثير من العلاقات المبتورة غير محددة المعالم. ليس هذا تناقضاً؛ ولكنه حالة من الخوف الشديد، خوف من الزواج وخوف من العنوسة وخوف من الطلاق، ولم تعد هناك قواعد تقي أي شر قادم وأصبحت الاستثناءات هي القاعدة، ودون البحث عن حلول أو ردود منطقية وفلسفية للتفسير، وجدت أن تقبل الحال هو أفضل ما قد يحدث؛ فصديقنا هذا قد تقبل قدره، وأخبرته أنه إذا لم يشتكِ حين يتقدم به السن فلن يعاني، كما أن أي فتاة أخرى لم تسعد بالزواج عليها أن تتقبل قدرها ولا تجعله جل همها، وأن تبحث عن شيء آخر تحلم من خلاله، وتضيف سعادة تصنعها هي على حياتها دون الانتظار لمن يفعل لها ذلك. فلتتعود أن تكون فعلاً لا رد فعل، كما أن الشاب الذي يقدم علي الزواج عليه أن يتأكد أولاً أن تلك هي الفتاة التي سيستطيع أن يبني معها شراكة؛ وأن يتحرى من العلاقات التي يدخل ويخرج منها دون حساب، فإن القلب يبلى من كثرة مريديه.
أما صديقنا السائق هاهنا فقد اختار مهنة قيادة التاكسي حلاً يتغلب به على الوحدة، فيشارك الناس الحديث بوجه ضاحك طوال الوقت ويبين لهم الأسباب التي تجعل من أي عريس مغفلاً، والأسباب التي تجعل من أي شخص غير مرتبط في قمة سعادته وفي ذكاء آينشتاين، على أمل أن يصدر كتاباً لاحقاً بعنوان (كيف تحيا سعيداً بدون زواج).