في مثل هذه الأيام، وتحديدا في السابع عشر من نوفمبر من العام 1997، تناثرت دماء 58 سائحا أجنبيا على أرض معبد الدير البحري بالأقصر بعدما استقبلت صدورهم وابلا من الرصاص على يد من يعتقدون في أنفسهم أدوات الله في تنفيذ وصاياه على الأرض. نعم هي.. ومن غيرها؟ الجماعة الإسلامية بمصر والتي كانت لها صولات وجولات في هذه الفترة، أدمت جسد مصر شعبا واقتصادا ونظاما قبل أن ينجح ذلك الأخير في اقتلاع جذورها من منبتها بمساعدة الداخلية المصرية التي تمكنت من ضربها ضربات موجعة في مقتل بفضل نظام اختراق الجماعة الذي تتبعه معها منذ سنوات. أصل الحكاية أصل الحكاية يعود إلى التاريخ سالف الذكر عندما قام 6 من المسلحين متنكرين في زي رجال أمن بفتح النار على أفواج السياح التي كانت تستمتع داخل معبد الدير البحري برسومات فراعنة مصر مستخدمين رشاشات آلية روسية الصنع، مما تسبب في مصرع 58 سائحا وكان من بين ال58 ضحية 38 سويسري الجنسية. بعد أيام من الكر والفر نجحت قوات الأمن أخيرا من الوصول إلى المجموعة المنفّذة للعملية داخل إحدى المغارات وبحوزتهم الأسلحة والأدوات التي استخدموها في الحادث ولكن وجدوهم جثثا هامدة منتحرين بعد أن ضيّق عليهم الحصار وفقدوا الأمل في الهرب. هذا الحادث أوقع أزمة دبلوماسية بين كل من مصر وسويسرا -التي راح أغلب سائحيها في مجزرة نوفمبر- بسبب طلب الحكومة السويسرية بالحصول على تعويضات عن أرواح الضحايا وهو ما رفضته الحكومة المصرية بشدة ولم تستجب له على الإطلاق، ولكن زيارة لاحقة لمسئولين سويسريين فيما بعد كانت كفيلة للجرح أن يندمل ببدء صفحة جديدة بين البلدين. انقسام أم مراوغة؟!! في أعقاب الحادث مباشرة قام القيادي الإسلامي بالجماعة رفاعي طه من خلال بيان وزّع على مختلف وكالات الأنباء العالمية بالتأكيد على مسئوليته عن هذا الحادث، فلم يتوانَ الناطق الإعلامي باسم الجماعة أسامة رشدي في التصدي له إعلاميا قائلا: تدعوني أمانة الكلمة وشجاعة الرأى لأعلن عن عميق أسفي وحزني لما وقع في الأقصر وسقوط هذا العدد الضخم من الضحايا الأبرياء ومهما كانت الدوافع والمبررات، فإنه لا يوجد مبرر يدعو لهذا القتل العشوائي الذي يُعد سابقة لا مثيل لها، ويتناقض تماما مع الأدبيات الشرعية والسياسية للجماعة الإسلامية التي كانت تستهدف صناعة السياحة وليس السياح الأجانب". ذلك التصريح الذي خرجت به الجماعة على لسان الناطق الإعلامي باسمها فيه ما يبعث على الحيرة بالقدر الكافي؛ لأنه يوحي للوهلة الأولى وكأن هناك انقساما بيّنا داخل صفوف الجماعة وتضاربا في الكينونات المخوّل لها بإعطاء الأوامر فيما ينفذ وما يستهدف من عمليات الجماعة الجهادية، خاصة إذا عرفنا أن مثل هذه الجماعات تسعى دائما إلى إبراز اتحادها وإخفاء انشقاقها، وعليه ربما يكون من العسير على البعض تصديق فكرة أنهم أعلنوا انقساما ظاهريا من أجل امتصاص غضب نظام لن يرضى عنهم إلا إذا اتّبعوا ملته. ولكن الفرضية السابقة بوجود انقسام بين صفوف الجماعة يعفيها من دماء السائحين ويقصر الموضوع على تصرف فردي متهور من صبية متحمسين لخدمة دينهم -أو هكذا يتصورون- تدحضه تحريات الشرطة التي كشفت أن مصطفى حمزة مسئول الجناح العسكري في الجماعة كان قد أعطى أوامره إلى هذه المجموعة بتنفيذ عملية أخرى ضد سائحين أجانب بدار الأوبرا أثناء عرض أوبرا عايدة ولسبب أو لآخر لم تتمكن تلك المجموعة من تنفيذ هذه المهمة، فاستبدلوها بحادثة الأقصر أو هكذا يقول أحد الجناة في ورقة كتبها بخط يده، ووجدتها الشرطة بين طيات ملابسه عقب الحادث تقول: نعتذر لقيادتنا عن عدم تمكننا من تنفيذ المهمة الأولى، وعليه فالتصرف لم يكن تصرفا فرديا بل صادر من قائد الجناح العسكري للجماعة بنفسه، صحيح وأن الأمر لم يخصّ الدير البحري ولكن تعددت الطرق والموت واحد فالمطلوب في كلتا الحالتين جثث تتناثر منها الدماء الساخنة. نقطة أخيرة أكثر غموضا تطرحها تصريحات الجماعة -الواضح ارتباكها- وهو قولها بأن أدبيات وشرعيات الجماعة أبدا لم تستهدف السياح بقدر ما استهدفت صناعة السياحة، وهنا يبقى السؤال: وما الفرق بين السياح وصناعة السياحة؟ فكلاهما كيان واحد لا ينفصل. بعض الاجتهادات الفكرية تقولبأن الجماعة هنا إنما كانت تعني أنها لا تقصد إيذاء السياح وإنما تقوم بعمليات ينطلق منها الشرار الذي يخيف ولا يصيب، وبالتالي يحدث المراد ويتوقف هذا السيل من السائحات "العاريات" -هكذا يرى قادة الجماعة- عن التدفق إلى بلاد ابن العاص. هذه الفرضية على ضعفها مهّدت الطريق أمام فرضية أخرى ربما تكون أكثر قبولا ومنطقية وهي أن الجماعات الإسلامية إنما أهدافها أبعد بكثير من مجرد ترويع سائحات يؤذين بعريهن مشاعر المسلمين المؤمنين، ولكنها تسعى لأهداف طويلة المدى يعرفها الجميع ألا وهي السيطرة على نظام الحكم في مصر وإظهار النظام المصري غير قادر على توفير الأمن والأمان على أرضه من جهة، ومن جهة أخرى يتكاسل عدّاد الأموال التي تتدفق من زيارات السائحين على مصر بعد ترويعهم عنها -و لعل هذا ما كان يقصدونه بضرب صناعة السياحة وليس السائحين. مذبحة 17 نوفمبر لم تكن الأولى إن المتابع والمدقق لتاريخ الجماعات الإسلامية سوف يكتشف أن حادثة 17 نوفمبر لم تكن هي الحادثة الأولى التي تلجأ لها الجماعة للعنف وإراقة الدماء كحل لبلوغ أهدافها على اختلافها بل كان تاريخها حافلا بالكثير من الأفعال التي يسوّقها بالأساس الفكر الجهادي المجرد من معناه الحقيقي الذي نص عليه القرآن الكريم والموظّف لأغراض أهل هذه الجماعة، نعرض لبعض هذه الوقائع لننعش بها الذاكرة. في العام 1974 قامت مجموعة من أعضاء الجماعة الإسلامية بمحاولة السيطرة على مقر الكلية الفنية العسكرية بغية الحصول على ما فيها من أسلحة والسيطرة على مقر قيادة الثورة -حيث مقر الحكم- والقبض على الرئيس السادات ومعاونيه، وذلك بعد قطع الاتصالات السلكية داخل مقر القيادة، ولكن أعضاء الهجوم فوجئوا بالطائرات الهيليكوبتر والاتصالات اللاسلكية تحاصرهم من كل اتجاه، وهو ما تسبب في اشتباكات عنيفة راح ضحيته عدد كبير من الطرفين ومقتل جميع الحراس. في السادس من أكتوبر من العام 1981 وفي الذكرى الثامنة لانتصار أكتوبر وبينما كان الرئيس المصري محمد أنور السادات يحضر الاستعراض العسكري الذي تقيمه القوات المسلحة المصرية بهذه المناسبة تمكّن مجموعة من أعضاء الجماعة الإسلامية وعلى رأسهم خالد الإسلامبولي ببلوغ المنصة وتوجيه النيران إلى صدر الرئيس توفّي على إثرها متأثرا بجراحه في الحادث الذي اشتهر منذ ذلك الوقت بحادث المنصة. في الثامن من أكتوبر من الشهر والعام ذاته قامت الجماعة بالاستيلاء على مدينة أسيوط ودارت بينهم وبين قوات الأمن معارك ضارية نجحت فيها الأخيرة في استعادة السيطرة على المدينة في الحادثة التي كانت تعرف بقضية تنظيم الجهاد. في عام 1995 حاولت الجماعة اغتيال الرئيس محمد حسني مبارك أثناء زيارته لدولة إثيوبيا ونجا منها بصعوبة بالغة. الوزير دفع الثمن غاليا والجماعة أيضا حادث الأقصر كانت له أصداء عظيمة وأحدث غضبا في نفوس شعوب تلك الدول التي انتمى إليها الضحايا، وخاصة الشعب السويسري الذي دفع من أجساد أهله أغلب ضريبة هذه المذبحة، وعليه جاء قرار الرئيس المصري محمد حسني مبارك في هذا الوقت بإعفاء وزير الداخلية حسن الألفي من مهام منصبه الذي تحمّل وحده إرث الأزمة الثقيل وتم تعيين اللواء حبيب العادلي بدلا منه وما زال الأخير يشغل المنصب حتى لحظتنا هذه. في السنوات التالية يمكننا القول أن اللواء حبيب العادلي استطاع بالفعل أن يقتلع معظم جذور هذه الجماعات من منبتها معتمدا في ذلك على خلفيته المخابراتية التي مكّنته من اتباع طرق جديدة معهم وأهمها على الإطلاق نظام اختراق هذه الجماعات من الداخل وهو الأمر الذي أتى بثماره على مدى عدة سنوات.. تفجيرات الأزهر وشرم الشيخ ونويبع كلها لا تنسب للجماعات الإسلامية، وإنما كانت بالأساس إما تصرفات فردية من شباب لا تحكمه أي مرجعية تنظيمية أراد التعبير عن غضبه من الحصار المضروب على الأشقاء في غزة، أو فلسطينيين أرادوا تصفية حساباتهم مع الصهاينة ولكن بشرط أن تدفع مصر ثمن الفاتورة كاملة، أو حتى جماعات خارجية مدّت ذراعها إلى الداخل لأهداف استراتيجية بالأساس -كما كشفت قضية خلية حزب الله الأخيرة. وإذا دققنا النظر أيضا سنجد أن أغلب هذه العمليات التخريبية تمّت في مناطق تُعتبر يد الأمن فيها غير مطلقة بالمعنى الحرفي؛ نظرا للتعقيدات السياسية الكثيرة التي تحكم هذه المناطق وأعني تحديدا شرم الشيخ وطابا ونويبع من قيود حمل السلاح في هذه المناطق. حادث الأقصر السابع عشر من نوفمبر 1997 لم يكن الفصل الأول في كتاب السيرة الذاتية للجماعة، بل كان الفصل الأخير، وظل هذا الكتاب ينزف بدماء المصريين الأبرياء أو السائحين الذين لم يفعلوا أكثر من المجيء إلى بلد ظنوا فيه الأمن والأمان، واستمر الكتاب ينزف حتى جفت هذه الدماء نهائيا.