تابعت عن كثب الملف الرائع الذي أعدّته محررة المصري اليوم "فاطمة أبو شنب" عن ضحايا قطاري العياط، وقامت فيه بانتقاء أكثر القصص مأساوية كي تسردها، وقبل أن أشرع في قراءة ما نشر توقعت من البداية الأولى أن أجد الميلو درامة غالبة على أسلوب السرد سواء هذا الخاص بالمحرر أو ذاك الخاص بالمصدر، ولكنّي وجدت واكتشفت بُعداً آخر مختلفاً. اكتشفت أن في هذا البلد لا يموت فيه غير الغلابة.. لماذا؟ لأن دماءهم رخيصة لا تجد من يُطالب لهم بتعويض مادي "يِقسم" وسط الحكومة، ولا يجدون من يطالب -نيابة عنهم- بالمسئولية السياسية عن أرواحهم التي أُهدرت مجاناً تحت عجل القطار؛ لأن أقصى طموحاتهم هي الحصول على علبة دواء "غالية حبتين"، أو تقاضي ال5 آلاف جنيه التعويض بدون عناء ومشقة وانتظار سنوات "يِتنِحل" فيها وَبَرهم قبل أن يحصلوا على ثمن جثثهم، وإذا لم تصدقني فلتقرأ الملف وستعرف عمّا أتحدّث.... أتحدّث عن سيدة خرجت من بيتها في الرابعة من فجر ذلك اليوم المشئوم؛ كي تبيع "كام حزمة جرجير" لماذا؟ كي تؤمن حق "القطرة" لزوجها الضرير وأن تبقي شيئاً تحاول أن تبتاع به من الزاد ما يُعينها وأسرتها على الحياة، وهو الأمر الذي يتطلب منها عقلية اقتصادية فذّة؛ كي تحقق المعجزة وتوازن بين الوريقات التي كسبتها من بيع الجرجير وبين طعام عزّ على الفقراء وحدهم!! زوجها الضرير انتظرها طويلاً حتى تعود رفقة بعينيه التي بدأت تؤلمه من جديد بعد أن انقطع عنها النور السماوي، ولكن أم العيال تأخرت، اشتممت أنفه رائحة الموت، شعر في نبرة أولاده -الذين خبئوا عليه الخبر- مسحة كذب مشوبة بمصيبة قادمة، حتى خرج يبحث عن رائحتها في الهواء الطلق لعلها تكون قادمة على أول الطريق، ولكنه لم يسمع وقع خطواتها وسمع عوضاً عن ذلك صوت منادي المسجد يدعو الناس أن يترحّموا على زوجة ذاك الضرير التي قضت نحبها على قضبان العياط، فصرخ صرخة كاددت تُعيد إليه بصره قائلاً: "أمكم ماتت يا ولاد"، ولم يتبقّ له من إثرها سوى "جوز شبشبين". هذا مثال من أمثلة عدّة لم أشأ أن أوردها؛ رفقاً بالقرّاء الذين نزفوا حزناً يكفي ويفيض، ولكن ما سلف جعلني أتساءل.. لماذا نتفنن في هذا البلد في إهانة الفقراء بشكل يجعل المرء يتعجب من قدرتهم الغريبة على مواصلة العيش وهو شيء أشبه بمعجزة موسى "عليه السلام"؟!! فمن يقرأ جيداً تفاصيل الخبر سوف يكتشف أن هذا الضرير كان يحصل على معاش قدره 75 جنيهاً فحسب!! 75 جنيهاً.. أي هراء هذا؟!!! كيف لأسرة -أياً كان عددها صغير أو كبير- أن تعيش بمبلغ يمكن أن يذهب في لحظة ضحية لفاتورة مياه أو كهرباء، أي ضمير هذا الذي يسمح لنا بأن نعامل فقراء هذا البلد بهذا الشكل المهين لمجرد أنهم فقراء، أي حكومة تلك التي تصرف ملايين على احتفالية فاشلة -احتفال الألفية الجديدة- بينما تترك عجائزها ليتدبروا حالهم ب75 جنيهاً؟!!!! في الدول الغربية والولايات المتحدة لا يعتبرون فقراءهم -على رغم ما هم فيه من تقدّم ورقي- طفيليات يجب التخلّص منها، وسحقها على قضبان حديدية صدأت من مائة عام ويزيد؛ بل يعطونهم شهرياً إعانة بطالة، فضلا عن كروت المطاعم المجانية التي يحصلون عليها حتى لا يبيتون يوماً دون عشاء -كما هو الحال عندنا!!! هناك في البلاد التي لم تعرف يوماً التكافل الاجتماعي الذي عرفه الإسلام منذ 1430 عاماً ويزيد، ولكن وجب على الجميع أن يعرفوا ويوقنوا حق اليقين أن الفقير لن يرضى بفقره أبداً ما حيا، سيجيء يوماً ويضيق ذرعاً بفقره، سيجيء يوماً ويضجر من سعيه الحثيث من أجل لقمة عيش لا يجدها، سيخرج يوماً من العشش التي يعيش بها ومساكن الطوب الأحمر كي ينتقم مِن كل مَن حرمه من حقه في الحياة الكريمة، لأول مرة سوف يأخذ ما يريد دون أن يطلبه أو يسعى إليه، فهل نستيقظ ونُوقِظ معنا ضمائرنا.. أم ننتظر ثورة الفقراء ونتقبّل كل نتائجها أيما تكون؟!!!!