"أنا باشمّ الكُلة بس، وباشرب بانجو كمان لما يكون معايا فلوس".. مثل هذه الكلمات لو سمعناها من شاب أو فتاة بالغة من الممكن أن تكون عادية وغير مثيرة للانتباه!! ولكن عندما تخرج من فم طفل لا يتجاوز عمره 12 عاما فتلك هي الكارثة.
والمصيبة أن هذا ما حدث بالفعل ليكشف عن ظاهرة خطيرة، وهي مسألة إدمان الأطفال للمخدرات، والتي بدأت تنتشر بصورة ملحوظة، خاصة بين أطفال الشوارع أو أطفال المناطق العشوائية والشعبية، وأيضا عند أبناء الطبقة الراقية.
"بص وطل" حاول رصد الأمر؛ للوقوف على خطورة الظاهرة، وكانت البداية مع الطفل الذي قال عبارته التي ذكرتها في بداية الموضوع؛ فهذا الطفل الذي يُدعى سامح من سكان منطقة "عزبة خير الله" بمصر القديمة، وهى إحدى معاقل العشوائيات في القاهرة؛ حيث يعيش أهلها أعلى سفح جبل يشبه جبل الدويقة، والبيوت عبارة عن عشش من الصفيح.
التعاطي في جبل الزهراء عند هذا الجبل -وتحديدا أسفل الكوبري الدائري الذي يمر بجواره- وجدت مجموعة من الأطفال، كان من بينهم سامح بزيّ مُهلهل، يتناوبون شمّ "الكُلة" في عبوة صفيح قذرة، وعندما لاحظوا اقترابي منهم لاذوا بالفرار، ما عدا سامح الذي يُعتبر زعيمهم، ومن وجهة نظره أن الزعيم لا يخاف، ولا يجب عليه أن يهرب.
لم يتخوّف سامح من الحديث معي، وبادرني قائلا: "معظم أطفال المنطقة بيشربوا مخدرات؛ لأنهم بيقلّدوا الكبار، اللي بيشربوا حشيش، بس علشان الحشيش غالي فبيشمّوا "كلة"؛ لأن ده بيحسّسهم إنهم كبار".
وأشار إلى أنه بدأ بشرب السجائر منذ عام تقريبا، وبعدها لجأ إلى "الكُلة"، التي يشتريها كل أسبوع بعد أن يدّخر كل مصروف مدرسته للقيام بذلك، وأوضح أن كيلو "الكُلة" وصل سعره إلى 30 جنيها، ولذلك فهو وأصدقاؤه بالمنطقة يقومون بشراء ربع كيلو فقط، ويتعاطونها أسفل الكوبري؛ لأنه مكان مهجور.
"رشا".. مدمنة الكورنيش الكارثة الكبرى التي وجدتها عندما تركت سامح، وتوجّهت إلى كورنيش النيل، أن بعض الأطفال يتّخذون من غابات البوص الموجودة على شاطئيه -خاصة عند منطقة دار السلام- وكرا للتعاطي، ومن بينهم طفلة عمرها 13 عاما تُدعى "رشا"، وقد عرفت منها أنها هجرت بيت أهلها في محافظة "الغربية"، بعدما توفيت والدتها، وأجبرتها زوجة أبيها على ترك المدرسة، والخروج للتسوّل.
سيجارة "بانجو" "رشا" لم تجد ملاذا لها سوى الهروب إلى القاهرة، والعمل في بيع الورد على كورنيش النيل، وجمعتها صداقة وزمالة مع أطفال الشوارع، ومَن هم في نفس ظروفها سواء من الأولاد أو البنات، وقد قادها الأمر إلى تعاطي "البانجو" الذي تشتريه من بلطجية معروفين بنفس منطقة عملها، حيث تعطيهم كل ما تحصل عليه من أموال؛ للحصول على سيجارة "بانجو"، ويتبقى معها القليل لشراء وجبة طعام لها، لا تتعدى ساندويتش فول أو طعمية.
وقد اعتادت "رشا" تناول البانجو بشكل يومي، ولا تستطيع الاستغناء عنه، وهي لا تفكر في العودة إلى بيتها مرة أخرى، وقالت إن حياة الشارع أرحم من الحياة مع زوجة أبيها.
الهروب من الملجأ إلى الحشيش بجوار ميدان السيدة عائشة توجد حديقة، تعتبر مأوى لمن ليس لهم مأوى، ومنهم طفلة جسمها نحيل جدا، وعمرها 12 عاما، وقد هربت من الملجأ الذي وضُعت فيه بعد وفاة والديها في حادث حريق قبل 3 أعوام، وعملت في التسوّل وبيع المناديل، وتجد أن ذلك أفضل من المعاملة السيئة بدار الأيتام.
وقالت إنها كثيرا ما تجد في الحديقة العديد من الشباب والأطفال يتعاطون المخدرات، وبدأت تقلّدهم وتشرب ما يتبقى منهم من بانجو أو حشيش، وتدريجيا أدمنت الأمر، وأصبحت لا تستغني عن التعاطي، وتطلّب ذلك تكثيف عملها في التسوّل واللجوء للسرقة أحيانا؛ حتى تستطيع شراء "الكيف".
وقد كشفت الطفلة نادية أن هناك صراعات تصل إلى حد الضرب بالأسلحة البيضاء؛ للحصول على المخدرات، والتي يتم شراؤها من منطقة القلعة، وقالت إن أي شخص يصاب بأي مضاعفات من الإدمان لا يتم الذهاب به إلى المستشفى؛ حتى لا ينكشف الأمر، وقد يقوم زملاؤه بإسعافه بشكل بدائي مثل إغراقه بالمياه أو إطعامه الليمون الأخضر.
مدمن "هاي كلاس" بخلاف مثل هؤلاء الأطفال الذين قادتهم ظروف صعبة إلى الإدمان، هناك بعض الأطفال ال"هاي كلاس"، ومنهم طفل في الرابعة عشرة من عمره، يسكن بمنطقة المعادي، وهو تلميذ بإحدى بمدارس اللغات، والذي بدأ التعاطي بالسجائر، ثم تطور الأمر إلى المخدرات منذ سبعة أشهر.
الطفل الذي يُدعى "تامر" يشرب حاليا الحشيش، بعد أن اطّلع على موضوع منشور على شبكة الإنترنت، يؤكد أن تعاطيه يساعد على السهر والتركيز، وهو ما دفعه لتناوله ليساعده على مذاكرة دروسه، كما أنه أوضح أنه أيضا يقوم بالتعاطي؛ تقليدا لبعض الفنانين والممثلين، الذين يظهرون وهم يتعاطون المخدرات في الأفلام السينمائية.
وأشار إلى أنه يقوم بشراء المخدرات من أحد الأشخاص، الذي يتردد على المدرسة، ومعروف لدى الأطفال الذين يتعاطون الحشيش، مؤكدا أنه يشتري "قرشين" حشيش كل أسبوع، ويقوم بتعاطيها مع بعض زملائه في أحد المقاهي بحلوان، وقال إنه يوفّر ثمن هذه المخدرات من الأموال التي يحصل عليها من والده؛ بحجّة شراء مذكرات وكتب خارجية.
التعاطي في سن التاسعة الدكتورة فادية أبو شهبة -الأستاذة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية- أشارت إلى وجود دراسة حديثة صادرة عن المركز، كشفت أن 3% من أطفال الابتدائي لديهم أصحاب يتعاطون المخدرات، وأن هؤلاء الأطفال بدؤوا التعاطي لأول مرة في عمر تسع سنوات.
الدراسة أوضحت أيضا أن 2% من الأطفال رأوا المخدرات في المنزل، إما مع الأب أو الأم أو الإخوة.
وأوضحت الدكتورة فادية أن الأبناء يقلّدون آباءهم وأمهاتهم عندما يتعاطون المخدرات، وأنها عندما قامت بإجراء عدة دراسات وأبحاث من داخل السجون اكتشفت أن 80% من المتعاطين وتجار المخدرات أدمنوا وهم في سنّ العاشرة.
تلاميذ المدارس وهناك دراسة أخرى أعدّها الدكتور محمد حجازي -أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة- ذكر فيها أن 5% من تلاميذ المدارس الابتدائية و 18% من الإعدادية مدمنون، وأن النسبة تصل إلى 59% بين طلبة الثانوية من البنين، كما أن نسبة بنات ثانوي المدمنات 6.5%، منهم 25% من طلبة وطالبات المدارس الحكومية.
وأشار الدكتور حجازي إلى أن الأفلام السينمائية والحلقات التليفزيونية غير المدروسة تساعد الأطفال على التعرّف على المخدّرات، وكيفية تعاطيها.
ما سبق يُنذر بكارثة حقيقية يجب تداركها بسرعة من قِبل كل مؤسسات الدولة؛ لأن أطفال اليوم هم شباب المستقبل، وهم أيضا عصب أي مجتمع فإذا كان هذا العصب رخوا وضعيفا، فهذا يعني أن المجتمع مُعرض للتفكك والانهيار في أي لحظة.