انفضّ السامر، وانقضى مولد أسوأ انتخابات مجلس شعب عرفتها مصر في العصر الحديث، لتتخطى النتائج ما لم يتوقعه أكثر المحللين السياسيين تشاؤما، لكن الشعب المصري البسيط بفطرته وصل إلى الحقيقة مبكرا، بغضّ النظر عن الأرقام والبيانات.. حقيقة يقولها أصغر طفل وأكبر عجوز بنفس نبرة السخرية الممزوجة بطعم المرارة والقسوة: "كله متظبّط من بدري". ها هي أحزاب المعارضة: الوفد والتجمع والغد والعدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى الإخوان المسلمين يعلنون براءتهم التامة من صفقة قذرة، أكّد بعض المحللين والمقرّبين من المطبخ السياسي أن أغلبهم -إن لم يكن جميعهم- قد شاركوا فيها؛ ليحصلوا -بالتراضي والاتفاق- على مقاعد محدّدة يمنحها لهم الحزب الوطني الديمقراطي، مقابل الاشتراك في مسرحية الانتخابات؛ حتى يضفوا عليها الشرعية والمصداقية أمام العالم كله، الذي خرجت وسائل إعلامه، ومراسلو الصحف، ووكالات الأنباء، ونشطاء حقوق الإنسان، والدبلوماسيون، والساسة؛ ليشككوا بأنها انتخابات مزورة.
الآن وقد صدقت براءتهم من هذه الصفقة، لا شك أن تلك البراءة أثبتت تورّطهم في تهمة أخطر بكثير، يمكننا أن نطلق عليها "الحماقة السياسية"، حين وضعوا أصابعهم في أذانهم ليصدوا دعوة البرادعي لمقاطعة جميع أطراف المعارضة والقوى الوطنية لهذه المهزلة، التي حتما ما ستُمنى بالتزوير الرسمي والصريح، إذا لم تكن هناك رقابة دولية، وإشراف قضائي يطهّر صناديق الانتخاب من عمليات التصويت من أموات، كما ثبت في بعض الدوائر، أو تسويد بطاقات الانتخاب لصالح مرشحي الوطني من الموظفين الموجودين في بعض اللجان الأخرى، بينما هناك لجان أخرى تم فتحها أصلا وصناديقها مملؤة!
الآن وقد صحت دعوة البرادعي وبعض عقلاء السياسة "المحترمين" بعدم خوض تلك الانتخابات في الوضع الراهن؛ حتى لا نمنحها شرعية زائفة، ودستورية مكذوبة، في حين لن تفرز لنا في النهاية إلا ما قد حدّدوه سلفا، وفقا لأجندتهم وخطّتهم الموضوعة سلفا؛ تمهيدا لانتخابات الرئاسة المقبلة، ونظام مصر الحاكم المفصّل على مقاس البعض بالمازورة، حتى تستمر مصالح "الكبار" دون أن تهتزّ أو تنهار تحت وطأة نظام سياسي حاكم غريب عنهم، ولا توافق أجندته وخطته مطامعهم، فيبدّل الوجوه، ويغير الجالسين فوق الكراسي، ويسير بالبلد في اتجاه يخالف أهواءهم، صحت مع دعوة البرادعي فطرة هذا الشعب الذي قاطع المسرحية الفاشلة، وترك الممثلين والمخرجين يلهون وحدهم في جنبات المسرح، بينما شاركت قلّة مندسة من الشعب والمأجورين ليضفوا أقصى ما يمكنهم من شرعية منافقة، فتعالوا نتخيل مصير تلك الانتخابات لو لم تشارك فيها المعارضة والقوى الوطنية وأفراد الشعب البسطاء.
إنه الفراغ الدستوري واقتصار قبة المجلس على أعضاء الحزب الوطني وحدهم، دون أن تكون هناك أصوات معارضة، ولا أحزاب ولا مستقلين، ليفتضح أمر الحزب الحاكم أمام العالم كله، وتفشل اللعبة التي يؤكّد الجميع من القاصي إلى الداني أنه يعلم تفاصيلها، لكنه لا يملك القوة لإيقافها أو إفساد مفعولها!
الحلّ كان في إيديهم، وما زال.. ونحن على عتبات عصر جديد، وأيام غامضة تنتظرنا في ظل انتخابات رئاسية قادمة، وإعادة توزيع لخريطة القوى والسلطة في مصر، بشكل يؤكد فيه الكثيرون من المحللين السياسيين والمفكرين أنهم فعلوا ما فعلوا دون أي اكتراث لصورتهم التي تشوّهت، وفضيحتهم التي تكشفت للعالم كله من أجل سيناريو تم حسمه، وأنهم الآن صارت في أيديهم مفاتيح اللعبة بأكملها، بشكل يؤهلهم لإصدار وتمرير أي قوانين، والتحكّم في أقدار الأمة على يد أشخاص معدودين.
لو أنهم فعلوها أو سيفعلونها سيكون هذا الحل الوحيد لكسر هذا السمّ الذي لا ندري حتى الآن مدى قوته ومفعوله، لكن البعض يؤكد لي أن أحزاب الغد والعدالة والتجمع مجرد أحزاب حكومية مستأنسة، بينما يلوّح الوفد بفصل أعضائه الذين رفضوا الانسحاب من الإعادة، وقد تكشّفت نواياهم بأنهم ليسوا معارضين، وليس لديهم أي خطط وأهداف سوى الحصول على الحصانة وكارنيه المجلس، فهل تفعلها قوى المعارضة في أول تحالف حقيقي يحفظ بقاءهم وبقاءنا؟ أم إنه قد سبق السيف العزل، والسيناريو الموضوع بات في طريقه للتنفيذ؟