عودة الدكتور محمد البرادعى إلى الوطن منذ أقل من أسبوع، وما سبقها من تعبئة إعلامية وشعبية واسعة، نقل المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية من مربع الراغب فى خدمة الوطن بشكل عام إلى موقع المكلف بقيادة التغيير الذى يتلهف عليه المصريون. فالشعب المصرى قد سئم مسرحيات الإصلاح الهزلية التى حشد لها النظام سلسلة من المؤتمرات والحوارات نظمتها مؤسسات تدّعى أنها ثقافية محترمة، فى الإسكندريةوالقاهرة، منذ عام 2004 لا لشىء إلا لمواجهة الضغوط الخارجية للإصلاح الحقيقي. ولم يجن الشعب من هذه المزاعم الإصلاحية إلا مجموعة من التعديلات الدستورية للسماح بتعددية الترشح لانتخابات الرئاسة، مع تكريس توريث الحكم، ورفع الحدود المنظمة لعدد مرات تولى الرئاسة وجعلها مفتوحة، وإقصاء الإشراف القضائى على الانتخابات العامة بالشكل الذى كان يضمن لها حدا أدنى من النزاهة والشفافية، وتأكيد استمرار حالة الطوارئ، وتعزيز القوانين المكبلة للحريات، والتضييق على نشاط المجتمع المدنى حتى ضاق الناس بمؤتمرات لإصلاح التى لا تخدم إلا مصالح النظام الحاكم. قبل عودته ومنذ وصوله لم ينقطع الدكتور البرادعى عن تشخيص أمراض مصر السياسية والاقتصادية والدستورية، والتشوهات الاجتماعية التى أصابت المجتمع المصرى بفعل نظام الحكم القمعى، وأعمال الفساد التى تغاضى عنها بل وسهل لها سنين طويلة. سوف يجتمع البرادعى بالكثير من المفكرين وخبراء السياسة والنخب الحزبية ويستمع إلى نصائح المتمرسين فى العمل العام وأقطاب المعارضة. لكن الخطوة الأولى على طريق التغيير على ما أظن يجب أن تكون الوقوف على حالة العجز التى تسود قطاعات عريضة من المصريين الذين أنهكتهم الضربات الأمنية والبحث عن لقمة العيش التى عزّت عليهم. هؤلاء أصبح شعارهم فى ممارسة الحياة السياسية والاشتراك فى الانتخابات هو الخوف من البطش الأمنى والتسليم بأن نتيجة الانتخابات مقررة سلفا (شعارها يعملوا اللى همه عايزينه).. مما يعنى الكفر بكل ما يقال عن المشاركة السياسية ولعبة الانتخابات التى تديرها أجهزة الأمن لصالح الحزب الحاكم. بذلك انقلبت المعادلة السياسية فأصبحت سلطة الحكم فوق سلطة الشعب الذى لا يملك من أمر نفسه إلا ما يسمح له به النظام الحاكم. لذلك فإن إعادة بناء المواطن المصرى وإعادة الثقة إليه فى حقوقه والمطالبة بها بإلحاح حتى وإن تعرض للتعذيب فى أقسام الشرطة هى أولوية لا يجب أن تغيب. ثانيا، لابد من رفع سقف توقعات المواطن المصرى من نظام الحكم من المطالبة بالحقوق السياسية إلى المواجهة والمحاسبة والتمسك بالحقوق المشروعة التى أقرتها الدساتير والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، سواء المعاهدات التى اعترف بها النظام ووقع عليها أو تلك التى مازال يراوغ فيها. وثالثا، تأكيد مبادئ الوحدة الوطنية والمساواة والحرية فى إطار الدولة المدنية لمحاصرة المواجهات الطائفية التى أصبحت تهدد الوحدة الوطنية. وهذه قضية غاية فى الحساسية لم تتمكن القوى الأمنية أو السياسية من حسمها، حتى إن تداعياتها وصلت إلى أجندة اهتمامات الكونجرس الأمريكى والبرلمان الأوروبى، وأخيرا إلى مراجعة حالة مصر فى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. إن هذه قيم لابد من إعادة ترسيخها حتى تكون الدعوة للتغيير على الطريق الصحيح. وهذا كله سوف يتطلب أمرين: الالتقاء والوقوف على آراء جميع أطياف العمل السياسى، واستكشاف الخريطة الجماهيرية للشعب فى مصر للتعارف والاتفاق على أجندة العمل التى قال الدكتور البرادعى إنه فى حاجة إلى مساعدة وتأييد الناس له فى تحقيقها. ويتطلب ذلك مبادرات لتكوين لجان شعبية للتنظيم والتنسيق والتعبئة. قد يمكن تحقيق مثل هذه التعبئة إذا لقى الدكتور البرادعى دعما من الأحزاب القائمة فى شكل تجنيد قواعدها ولجانها فى المحافظات والأقاليم، بالإضافة إلى لجان توعية واتصال من شباب الفيس بوك ومواقع التواصل الإلكترونية لتوسيع مساحة الرأى والاجتماع على مناهج العمل. هنا تبرز الحاجة إلى تشكيل جبهة وطنية للتعبئة الشعبية من أجل تعديل الدستور وقانون الانتخابات وحرية ممارسة العمل السياسى بما فى ذلك تكوين الأحزاب. وهذا التنشيط السياسى سوف يواجه عقبات لا يستهان بها، فنشطاء مواقع التواصل الإلكترونية هدف سائغ لرجال أمن الدولة، والاجتماعات العامة أو الخروج إلى الشارع وجبة شهية لرجال الأمن المركزى، وتكوين حزب سياسى بمباركة الحزب الوطنى عن طريق لجنة الأحزاب مهانة سياسية لا يرتضيها الدكتور البرادعى، ثم إن معظم الأحزاب القائمة تعرف مصالحها والحدود التى يمكن أن تلعب فيها بدون إثارة غضب النظام عليها وعلى مصالح رموزها. ولاستطلاع موقف نظام الحكم فى مصر من قضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان والحقوق المدنية والسياسية، فإن وفد الحكومة الذى مثل أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أبدى مرونة فى التعامل مع العديد من توصيات المجلس. لكن قانون الطوارئ لا يزال مسلطا فى انتظار استبداله بقانون مكافحة الإرهاب، كما رفض وفد الحكومة تعديل مواد قانون العقوبات المقيدة لحرية التعبير، وقبل بتعديل التعريف المنقوص فى نفس القانون الخاص بممارسة التعذيب، ثم رفض الوفد الرقابة الدولية على الانتخابات، حتى لا يكون فى ذلك اعترافا ضمنيا بتهمة تزوير الانتخابات. ولكن كل ما وافقت عليه الحكومة من توصيات وما وعدت به من مراجعات يبقى رهنا بإصدار التشريعات الملزمة للتنفيذ. إذا كانت ممارسة الديمقراطية والحريات السياسية والشخصية المكفولة دوليا قد غابت عن الشعب المصرى منذ ما يقرب من ستة عقود، فإن تفاعل الشباب مع عودة الدكتور البرادعى، سواء فى حشد التأييد له على مواقع الإنترنت أو فى السفر من المحافظات والقرى والانتظار لساعات للترحيب به عند وصوله فى مطار القاهرة تؤكد حقيقة لا تقبل الشك ولا التمويه: أن الحريات الشخصية والعامة هى رغبات غريزية يشعر بها الإنسان عندما يفتقدها مثل الجوع والعطش والظلم والعدل واليأس ثم الأمل، ثم إن طوفان اليأس لم يفقد الشعب المصرى ولا الأجيال الجديدة حيويتها ورغبتها فى التغيير. قد تكون الأجيال الأربعة التى ترعرعت فى ظل سطوة الحكام الذين أفرزتهم حركة يوليو 1952 معذورة فى أنها لم تدرك أهم حدث قومى فى التاريخ المصرى الحديث: ثورة الشعب المصرى على الاستعمار البريطانى عام 1919. صحيح أن الحقبة التاريخية فارقة، وظروف الحدث مختلفة، والقضية فريدة، لكن دلالة الحدث لا يخطؤها مؤرخ أو محلل للتاريخ. كان التنظيم العفوى واتحاد الإرادة والإصرار على مواجهة الظلم والعنف البريطانى دلائل قوية على أن الشعب المصرى لا يفقد الأمل، ولا القدرة على استرداد حقوقه، ولا يضلله الزيف عن الحق. ويبدو الآن أن هناك تيارا شعبيا متناميا يرى فى محمد البرادعى نموذجا حقيقيا للأمل المؤجل لملايين المصريين دون أجندة أنانية ضيقة. كيف سيتعامل نظام الحكم مع البرادعى سؤال لا يجرؤ الكثيرون على التكهن بالإجابة عنه. فالنظام أصبح مكبلا بأجندات شخصية معقدة ومضطربة، أهمها الرغبة فى الاستمرار بمسميات دستورية وقانونية لا تقنع أحدا، ولا تحمل أملا. أغلب الظن أن النظام سيقوم بتهميش البرادعى إذا سكن وانصرف عنه الناس، أو بتطويقه إذا نشط وألهب مشاعرهم. وفى جعبة أجهزة الأمن فنونا من ألوان القمع وترسانة من القوانين جاهزة التفصيل والاستخدام. لكن ما لا يستطيع النظام أن يعتمد عليه لإخماد ظاهرة البرادعى هى تلك المحاولات الفجة لتشويه صورته وأهليته، سواء جاءت من بعض أقطاب الحزب الوطنى أو من كتيبة متزلفيه. كما قد يدفع النظام ببعض موظفيه من ذوى المناصب الفخمة والألقاب البراقة لاحتوائه فى مشروعات وهمية أو مراكز بحثية، لكى يدفنوه فى شرنقة من حرير تعزله عن طوائف الشعب الواسعة التى يتعين عليه أن يتوحد معها. أمام الدكتور البرادعى طريق طويل وشاق، تغرى كل عقبة فيه على العزوف عنه حتى لمجرد ضمان الأمن الشخصى. لكن ما يجب أن يتذكره وأن يدركه الناس دائما أن «ظاهرة البرادعى» هى اختراع مصرى صميم صنعته طوائف الشعب التى تحملت رموز منها مشقة ومخاطر السفر إلى مطار القاهرة لاستقباله. إنه مشروع شعبى عفوى يجسد الأمل، لم يهبط بباراشوت على قمة الأحداث والتنظيمات وسط تصفيق المنافقين وتهليل المنتفعين الطامحين. إن نخبا متنوعة من الشعب المصرى قد جنّدت البرادعى ليؤسس ويقود حركة حقيقية شعبية للتغيير، فهل ينجح؟