يعود د. يوسف زيدان إلى قُرّائه بروايته الجديدة "النبطي"؛ وذلك بعد أن حققت روايته السابقة "عزازيل" مبيعات مذهلة وصلت إلى عشرين طبعة، فضلاً عن فوزها بجائزة "البوكر" العربية، واحتفاء الوسط الأدبي بها. هذه المرة تعود بنا الرواية إلى فترة زمنية مختلفة في تاريخ مصر القديم؛ تلك الفترة التي استولى فيها الفُرس على البلاد عام 618م فضاعت من يدِ الروم قرابة عشر سنوات، ثم عاد الحكم البيزنطي مجدداً قبل الفتح الإسلامي لمصر عام 639م. تُفاجئك الرواية بمعلومة تبدو غريبة على غير الباحثين في التاريخ؛ فالعرب كانوا موجودين في مصر قبل الفتح الإسلامي، ولهم علاقات تجارية وطيدة مع المصريين؛ لكنهم ليسوا العرب الذين نعرفهم. الأنباط: المجد الغابر وواقع الشتات الأنباط: هم جماعة من العرب عُرفوا بذلك الاسم لقُدرتهم على إنباط المياه (استخراجها) من الأرض الجرداء، وقد كانت لهم مملكة عظيمة عاصمتها البتراء، لا تزال آثارها إلى الآن تشهد على أمجادهم الغابرة، وعند زوال مَجْدهم تشتتوا في شمال الجزيرة العربية وجنوبي الشام والعراق؛ إضافة إلى النواحي الشرقية بمصر. لكن أحداث الرواية تبدأ من نقطة مختلفة تماماً، من كَفرٍ ناعسٍ، بجوار أحد الأفرع الخمسة للنهر العظيم، الذي يسمى بلغة أهل البلاد "يارو"، ويسميه العرب "النيل".. هذا الكفر لا اسم له؛ لكنه مع مجموعة من الكفور الأخرى يُطلق عليها "كفور النملة"، بالقرب من مدينة كبيرة تُدعى "الزقازيق"، ومعناها في لغتهم: السمك الصغير! هناك تُحكى الرواية على لسان فتاة جميلة تُدعى "مارية"، كادت تبلغ سنّ اليأس من الزواج، وأن يُطلِق عليها أهل الكَفْر لقب العانس؛ لأنها بلغت الثامنة عشرة من عمرها ولم تتزوج. هنا يأتي دور العرب الأنباط الذين قَدِموا للتجارة وخطبة "مارية" لواحد منهم، وقد تمّ الاتفاق في قصر "بطرس الجابي" المحاذي للكَفْر؛ فهو قريب أمها من بعيد، كما أنه يعرف لغتهم، وبينه وبينهم تعاملات مادية كثيرة. وتمّ الاتفاق على منح أمها -لأن أباها رَحَل إلى السماء بعد صراعه مع السلّ- المهر والهدايا، والعودة بعد شهر لإتمام مراسم الزواج. نجد في الحيوة الأولى ل"مارية" وصف لحياة كَفْرها الهادئ، وسُكّانه المعدودين، نجد الأب "شُنوتَه" القاسي الذي أخذ الوباء أهل بيته؛ فجفى الناس، ونجد أبونا "باخوم" الرحيم، الذي كان يؤمن بإنجيل يهوذا، وادعى أن المسيح صُلب على خشبة ليس لها شكل الصليب، ثم رحيله المباغت بعد تصيّد الأب "شُنوتَه" لأخطائه، كذلك نجد "حنّا" الرحوم، رئيس كنيسة "الملكانيين"؛ ذلك الغني العطوف بالفقراء، والذي حاول "شُنوته" منع أهل الكَفْر من زيارته وأخذ أُعطياته؛ لكن معظم الصغار والكبار فرحوا بالحلوى والهدايا التي كان يوزّعها عليهم. ثم نعيش مع الناس حالة الذعر التي انتابتهم، بعد أن سمعوا بقرب خروج الفُرس من مصر، واحتمال دخول الكُفُور، وهدم الديار، وسلب الأموال؛ لكي لا يجد الروم شيئاً يأخذونه إذا ما دخلوا مصر. وفي هذه الفترة المضطربة، عاد العرب مُبكّرين يطالبون بسرعة إتمام الزواج؛ لأنهم لا يعلمون متى يعودون إلى مصر مجدداً، وهكذا تجد "مارية" نفسها وقد فارقت أمها وأخاها والكفر كله إلى مكان مجهول غامض لا تكاد تعلم عنه شيئاً. في الصحراء تدور أحداث الحيوة الثانية حول وصف طويل لرحلة خروج "مارية" مع زوجها والعرب من بلادها وحتى دخولها مدينتهم "البتراء". في الرحلة يتودّد إليها ابن أخي زوجها "عميرو"، وهو فتى يصغرها ببضعة سنوات، ويناديها بالخالة، تعرف منه بعض عادات القوم الذين ستُعاشرهم رَدْحاً من الزمن؛ فهذا زوجها "سلامة" المسيحي يكبرها بأعوام كثيرة، لديه حَوَل بسيط في عينه، كما أنه أبخَر (أي كريه رائحة الفم)، وهذا أخوه الأكبر (أبو "عميرو")، وقد اعتنق اليهودية؛ لكن أمه ليست كذلك؛ مما يجعله في مرتبة بين اليهودي والأممي ولذلك لقب ب"الهوديّ". أما أخوهما الأصغر "النبطي"؛ فهو يدّعي أن الوحي يتنزل عليه، وهو حالم لا يقرب الخمر واللحوم، ويعاف النساء؛ لكنه يرى أن أوان نُبُوّته لم يَحِن بعد إظهاره، وفيما بعد حاول بنو تغلب إقناعه بنُصرته مقابل دعمهم في حروبهم؛ لكنه رفض؛ فهو لا يسعى لمظاهر الدنيا بل البحث عن كينونة الإنسان وسرّ وجوده وعلاقته بالكون. في هذه الرحلة تُقابل قافلتهم الصحابي "حاطب بن أبي بلتعة"، وقد وصفَتْه لغة الرواية بشيء من قسوة الطباع وغِلظة القول، وقد كان يحمل جاريتين إلى النبي القريشي -كما تُسمّيه "مارية"- وهما أختان، ونعلم من الأحداث اللاحقة أن إحداهما هي "مارية القبطية" التي تزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم، والأخرى "شيرين" أو "سيرين"، وتزوّجها الصحابي "حسان بن ثابت الأنصاري". وقد وضّح "عميرو" ل"مارية" أن الجارية في لغتهم تعني الفتاة الصغيرة، وليست العبدة أو الأمة، وتقوم "مارية" بملاطفتهما ومؤانستهما حتى يغُطّان في النوم. وتصوّر لنا الحيوة الثالثة واقع حياة "مارية" في مضارب الأنباط الرُّحّل؛ فالنساء يبقيْن في الخيام وفجوات الجبال؛ بينما يذهب الرجال معظم الشهور في قوافل التجارة إلى الشام أو اليمن أو مصر. هناك تتعرف بطلتنا على أعزّ صديقة لها "ليلى"، وهي أخت زوجها، وترتبط بحماتها "أم البنين" الحنون عليها؛ حتى تدعوها بأمي. وتبدو لنا أحداث التاريخ مجرد صدى بعيد يدور وسط الجزيرة العربية؛ لكنه ينعكس مباشرة على حياتهم؛ فحرب النبي القريشي ضد اليهود وتهجيرهم تجلبهم إلى السُّكْنى بالقرب من مضارب الأنباط، تبدو عليهم ملامح البؤس؛ بينما يتلفّت رجالهم حولهم؛ خوفاً طيلة الوقت مما قد يحدث. وغزوات المسلمين إلى نواحي الروم تؤدي إلى كساد التجارة وتوقّف حركة القوافل. أما أكثر مشاهد الرواية ألماً وحزناً؛ فهو انهيار "أم البنين"، بعد أن تعلَم بدخول المسلمين إلى الطائف (مسقط رأسها)، وهدم كعبة اللات الكبيرة (الإلهة المعبودة)، وقتل الكاهنة العظمى التي تُقَدّسها (أي اللات)، وهو ما أثار حزن أبنائها جميعاً.
وتستمرّ أحداث الرواية الشيّقة، ويستمرّ شعور "مارية" بالوحدة القاتلة؛ فلا ولد لها يُعَزّيها، والزوج غائب طيلة الوقت، والحياة غريبة ومختلفة عن تلك أيام الكَفر تمام الاختلاف. ملاحظات على الرواية على الرغم من الوصف المتميز لدقائق الحياة اليومية ولتفاصيل تلك الفترة، بالإضافة إلى اللغة الثرية التي يمتلكها "زيدان"؛ فإن ذلك لم يُسعفه في صناعة حبكة روائية قوية؛ فلم يقُم باستغلال الشخصيات المرسومة بنجاح بالغ لتضفيرها في نسيج روائي، يجمع الخيوط في حدث روائي واضح، تتفرع عنه أحداث أخرى فرعية؛ بل بدا أن كل شخصية تهيم في وادٍ، وأن الأمر يقتصر فقط على مادة علمية تاريخية مجمعة بأسلوب منمّق؛ فهي أقرب إلى مادة تسجيلية مصاغة بعناية منها إلى رواية تجعل القارئ ينفعل بأحداثها، ولم نجد ذلك إلا في مواقف متفرقة معدودة؛ بينما الاهتمام في الأساس مُنصبّ على ما تراه مارية وما تشعر به؛ لكن ذلك الاحتكاك الإنساني المولِّد للأحداث -بحكم العلاقات الإنسانية المتشابكة على الأقل- فقد بدا ضعيفاً مهلهلاً؛ كأن المؤلف يلهث وراء إبهار القارئ بتفاصيل تاريخية لا يعرفها؛ فلم ينتبه إلى هشاشة البناء الروائي الذي ينطلق منه، ولعلّ ذلك يتجلى في "الحيوة الثانية" أكثر من غيرها في الرواية. وتبرز النقطة الثانية في إصرار "زيدان" على استخدام نفس التوليفة التجارية الناجحة في رواية "عزازيل"؛ فشخصية "حنا الرحوم" تشعر بأنها لم تُضِف للرواية شيئاً، وشخصية "أبونا باخوم" وأثره في حياة "مارية" تكاد تتشابه مع "نسطور"، وما فعله بحياة الراهب "هيبا" في رواية "عزازيل": تلك الشخصية الطيبة في تعاملاتها الإنسانية؛ لكنها تمتلك منظوراً آخر للدين مخالفاً للقطيع؛ مما يقودها إلى النفي والإبعاد. لكن المؤلف هذه المرة قام بوضع مجموعة من المواقف الجدلية ذات الطابع الصدامي في التاريخ الإسلامي كذلك.. وبعيداً عن صحة الطرح التاريخي من عدمه؛ فما يشغلني هنا هو كيفية توظيف هذه المواقف داخل البناء الروائي، وهو ما نجح في بعضه؛ مثل إجلاء "عمرو بن العاص" للأنباط من أرضهم، وفشل في بعضه الآخر فشلاً ذريعاً؛ مثل موقف "حاطب بن أبي بلتعة"، وهو ما يُعيدنا مرة أخرى إلى هشاشة البناء الروائي. أياً ما يكن؛ فقد سلّطت الرواية الضوء على أناس عظام غفلت عنهم عين الأدب، ولعل أكثر ما يجعلني أحترم الأنباط هو الحرية العقدية التي تمتعوا بها؛ فنجد أن كل أخ من الأخوة الثلاثة: النبطي، والهوديّ، و"سلامة"، على دين وأمهم على دين آخر؛ لكن ذلك لا يمنعهم من المودة والصفاء وتشارك ملذات الحياة ومتاعبها.