إن هذه القضية لتعدّ مِن أخطر ما يمرّ به المجتمع، وأشدّ مساسا ببناء الأسرة وانهيارها، وبالتبعية انهيار كياننا كمجتمع -والعياذ بالله- لذا حرصنا على إلقاء الضوء على هذه القضية. هناك اتفاق في جميع الأديان -وفي الغالبية الساحقة للقوانين والثقافات- على تحريم وتجريم زنا المحارم، وما دونه من تحرّشات جنسية أو هتك للعرض، وذلك لأسباب كثيرة مِن أهمها أن الأسرة هي اللبنة الأساسية في الحياة الاجتماعية، وفيها ومن خلالها تتم كل عمليات التربية للإنسان "أكرم المخلوقات".
ولكي تقوم الأسرة بوظيفتها التربوية المهمة لا بد من وجود أدوار محددة وواضحة كالأب والأم والأبناء والبنات والعم والخال والجد إلخ... في إطار منظومة قيمية وأخلاقية وعملية تضمن القيام بهذه الأدوار على خير وجه بما يُؤدّي إلى نمو صحي ومتناغم لكل أفراد الأسرة على المستويات الجسدية والنفسية والاجتماعية والروحية. وزنا المحارم يُؤدي إلى تداخل الأدوار وتشوّهها وإلى اختلال منظومة الأسرة وإلى سقوط وانهيار الميزان القيمي والأخلاقي، وتصدّع الرموز الوالدية؛ فتصبح الابنة بمثابة زوجة لأبيها وضرة لأمها وزوجة أب لإخوتها، أو يصبح الابن زوجا لأمه وندا لأبيه وزوجا لأم إخوته، وتحدث استقطابات حادة في العلاقات داخل الأسرة؛ حيث تستحوذ الابنة المتورّطة على الأب أو يستحوذ الابن على الأم دون بقية الإخوة والأخوات، وهكذا تضطرب الأدوار والعلاقات، وتغيب معها كل معاني الحب والإيثار والتراحم والمودة، ويحل محلها الغيرة والتصارع والاستحواذ والكراهية والحقد والرفض والاشمئزاز والحيرة والغضب والتشوش والتناقض. وإذا حدث هذا وسقط النظام داخل الأسرة وامتدّ ذلك الأمر إلى مزيد مِن الأُسر، فإن ذلك إيذان بانهيار المجتمع الذي تشكل الأسر لبناته الأساسية. يضاف إلى ذلك ما ينشأ من تلوّث بيولوجي. اضطراب الجينات.. وتداخل الأنساب تلوّث نفسي وأخلاقي واجتماعي وانهيار روحي، ولا يُقلل من كل هذا ادّعاءات البعض بأن زنا المحارم كان مقبولا في بعض الثقافات والمجتمعات البدائية، بل إننا نقول لهم إن هذا الأمر كان أحد أهم الأسباب لانهيار ثقافات وحضارات استشرى فيها هذا الوباء وغيره، وأن وجوده في مجتمعات بدائية لا يغري بتقبّله بل يدفع لاستهجانه. تعريفات مهمة هناك الكثير من أشكال العلاقات الجسدية والجنسية تحدث بين ذوي المحارم، لذلك وجب التفرقة بينها من خلال تعريفات محددة كالتالي: الزنا: هو تغييب البالغ العاقل حشفة ذكره في فرج امرأة عمدا بلا شُبهة؛ سواء أنزل أو لم ينزل. هتك العرض: كل فعل يكون فيه مساس بجسم المجني عليها (أو عليه) يدخل في معنى هتك العرض، ويُعاقب عليه بعقوبات تقلّ عن عقوبات الزنا. زنا المحارم: هو علاقة زنا بذوي (أو ذوات) المحارم. وكلمة ذوي المحارم ترد في المراجع العلمية بمعنى مَن تربطهم بالشخص قرابة دم، وتترك لكل ثقافة تحددها حسب معتقداته وتوجّهاتها. وفي تعريف أكثر شمولا يوصف زنا المحارم بأنه أي علاقة جنسية كاملة (أي تشمل الإيلاج) بين شخصين تربطهما قرابة تمنع العلاقة الجنسية بينهما طبقا لمعايير ثقافية أو دينية، وعلى هذا تعتبر العلاقة بين زوج الأم وابنة زوجته علاقة محرّمة على الرغم من عدم وجود رابطة دم بينهما.
وفي الثقافة العربية والإسلامية تحدد ذوي المحارم في آيات واضحات في القرآن الكريم (نترك للقارئ مراجعتها في مواضعها في سورة النور وغيرها). أكثر الأنماط شيوعا هو علاقة الأب بابنته والتي تسعد بالاستحواذ عليه أنماط زنا المحارم الآباء أو أزواج الأمهات أو الأخوال أو الأعمام أو الإخوة الأكبر ينتهكون عرض الأطفال في الأسرة؛ الأم السلبية أو المريضة نفسيا أو مضطربة الوعي أو الشخصية، أو الابنة التي تأخذ الدور الأمومي في الأسرة، أو الأب المدمن، كل هؤلاء معرّضون للتورّط في زنا المحارم. وبما أن علاقة الأم بالابن هي أكثر العلاقات احتراما وتحريما في كل الثقافات؛ لذا نجد أن زنا الابن بالأم (أو العكس) هي أكثر حالات زنا المحارم ندرة على مستوى العالم. وعلى وجه العموم تشير أغلب الدراسات إلى أن الفتيات أكثر تعرّضا للتحرّشات الجنسية من الفتيان. وأكثر الأنماط شيوعا هو علاقة الأب بابنته؛ حيث تشكّل 75% من الحالات التي تم الإبلاغ عنها، وفي هذه العلاقة يُلاحظ أن الابنة تكون قريبة جدا من أبيها منذ طفولتها المبكرة، وهي تسعد بالاستحواذ عليه، وتبعده عن أمها وبقية إخوتها، وبالتالي تحدث غيرة شديدة من الجميع تجاهها وبغض لها وللأب الذي يصبح متحيّزا لها ضد بقية أفراد الأسرة، وأحيانا تتورّط هذه الابنة في علاقة أخرى بأحد الإخوة الأكبر لضمان السيطرة على ذكور الأسرة، أو تمتد بعلاقاتها خارج نطاق الأسرة مطمئنة إلى أن رموز الضبط والربط -الوالد والأخ الأكبر- متورطون معها فيما يجب أن يمنعانها منه. وغالبا ما تبدأ العلاقة بين الأب وابنته في سن العاشرة من عمرها بتحرّشات جسدية تُشبِه المداعبة، ثم تزداد شيئا فشيئا حتى تصل إلى العلاقة الكاملة، وهنا تصاب البنت بحالة من التشوّش والارتباك والحيرة، خاصة حين تصل إلى سن المراهقة؛ فهي لا تعرف إن كانت ابنة أو زوجة، وهي أحيانا تسعد بتلك العلاقة الخاصة، وتستعلي بها على أمها وإخوتها، وأحيانا أخرى تشعر بالخوف والاشمئزاز من نفسها ومن أبيها، أما الأم فتحاول إنكار ما تراه من شواهد أو تكون غير مصدّقة لما يحدث، أو تحاول التستر لكي لا تنهار الأسرة، أو تخرج عدوانها تجاه ابنتها والتي تلعب في هذه الحالة دور غريمتها، وفي كل الحالات تتصدّع الروابط الأسرية وتضطرب الأدوار. ونرى أن الابنة -في حالة رغبتها في الإفصاح أو الشكوى- تخشى من بطش والدها، أو عدم تصديق أفراد الأسرة لها أو اتهامها بالجنون، ولذلك تتكتّم على الأمر وتعاني في صمت، أما الأب فإنه يصرّ على الاستحواذ على الابنة فيعطّل نموها النفسي، ويعطّل زواجها وتعليمها وعملها؛ لكي يستبقيها داخل إطار البيت قريبة منه. ويلي هذه العلاقة ما يحدث بين الإخوة والأخوات، ويلاحظ وجود أعداد غير قليلة من العلاقات بين الإخوة والأخوات، ولكن الآباء يقومون بالتستر عليها أو إنكارها، والتعامل معها من خلال السلطة الوالدية بعيدا عن القانون. وقد وجد أن ثلث من وقع عليهم اعتداءات جنسية كانوا تحت سن التاسعة من عمرهم، وأن أكثر الحالات قد تم رصدها كانت في الأماكن الأكثر ازدحاما والأكثر فقرا والأدنى في المستويات الاجتماعية، وهذه الزيادة ربما تكون حقيقية؛ بسبب التلاصق الجسدي في هذه البيئات المزدحمة، أو تكون بسبب وجود هذه الفئات تحت مجهر الهيئات الاجتماعية والبحثية أكثر من البيئات الأغنى أو الطبقات الاجتماعية الأعلى والتي يمكن أن يحدث فيها زنا محارم في صمت، وبعيدا عن رصد الجهات القانونية والبحثية. وكي لا تغيب عنا القضية ولنستشعر معا بخطورتها وأهميتها وقانا الله ووقى الأسرة المسلمة والأسر عامة شر تلك الآفة؛ فانتظرونا في الحلقة القادمة لنتابع معا العوامل التي تسهم في حدوث هذه القضية وحجمها. فتابعونا،،،، عن موقع أون إسلام