وصلتني دعوة غريبة، وبعد الاندهاش والاستهجان اعتبرتها حالة فردية وتغاضيت عن الأمر؛ لكن دهشتي ما لبثت أن عادت عندما تكرّرت الدعوة، لكن مِن شخص مختلف هذه المرة.. الدعوة كانت لحضور حفل "الهالوين"، وعلى الحضور الابتكار في ملابسهم التنكرية.. و"الهالوين" لمن لا يعرفه هو عيد أمريكي، يُترجم في الأفلام الأجنبية ترجمة عقيمة إلى "عيد القديسين"، وهي ترجمة لا علاقة لها بمعناه على الإطلاق.. موعده في 31/ 10 من كل عام؛ وفيه يقومون بارتداء الملابس التنكرية للشخصيات المخيفة؛ كالساحرة الشريرة أو الشياطين أو أي شخصية شريرة ما.. والكل يبتكر في ثيابه، والأطفال يقومون بعدها بالمرور على المنازل لطلب الحلوى، وإلا التعرّض للمقالب منهم.. في العبارة الشهيرة Tricks or Treats، أي هو نوع من تعليمهم البلطجة والسطو المسلح منذ الصغر! هكذا.. هو عيد أمريكي صرف.. أمريكي المعنى والهدف والمغزى والطقوس.. لذلك لم أفهم معنى الدعوتين، خاصة أنهما وصلتاني من أصدقاء معنا في مصر. بعد التأمّل ومشاهدة صور الحفل وملابسهم التنكرية، التي لم تُخْفِ ملامحهم لكنها أخفت معالمهم -مع الفارق في المعنى- لم تعد الدهشة بنفس حدتها السابقة؛ فالأمر تنويع لما نعيشه مؤخراً من الابتعاد التدريجي عن كل ما هو مصري أو عربي، والانغماس وبقوّة في كل ما هو أجنبي بشكل مبالَغ فيه.. فقدان هوية يزحف تدريجياً، ومع الأسف تجد آباء كثيرين إما يُشجّعون عليه أو لا ينتبهون لخطورته مستقبلاً. اللغة العربية.. صارت مادة للسخرية هذه الأيام؛ وهو ما لن أفهمه أبداً.. فلو سألت أي طالب في مرحلة عمرية متقدّمة -كالإعدادية أو الثانوية- ستجده يعاني ضعفاً شديداً في لغته الأم، ولامبالاة جرّاء ذلك، فهو لا يعتبر الأمر بهذه الخطورة؛ فهي اللغة العربية في المقام الأخير، وهي لا قيمة لها حتى يقلق بصددها! لذا فأنا أجده أمراً مخزياً أن يُخطئ المرء في لغة بلده، ويرتكب أخطاء لغوية فادحة قد لا يرتكبها الأجانب المهتمون بتعلُّم الثقافة العربية، بل قد يسخر أحياناً ممن يتحدَّث بعربية سليمة، وياليته يُجيد عوضاً عنها اللغات الأجنبية إجادة تامة، إنما هو إلمام بقشورها فقط، والغريب في الأمر أن عدد المهتمين بتعلُّم العربية من الغرب يزداد، بينما يزداد ابتعاد أهلها عنها. رواية سمعتها مرتين من أشخاص مختلفين؛ بعض الأهالي الذين أدخلوا أبناءهم مدارس "إنترناشيونال" (التعليم بها بالفعل جيّد ومبتكر، ويحثّ الطلاب على استخدام عقولهم بعيداً عن الطريقة المصرية العقيمة في التدريس -الأمر في بعض منها وليس كلها؛ لأن كثيرا من هذه المدارس مجرد فقاعة صابون لا محتوى فعلي بها) يشتكون مناهج أبنائهم التي لا يوجد بها أي حرف عن الثقافة المصرية أو العربية؛ فالتاريخ الذي يتم دراسته تاريخ وجغرافيا فرنسا -حيث كان الأبناء في الفرع الفرنسي من المدرسة- ولا يوجد أي حرف عن تاريخ مصر، لا القديمة ولا الحديثة! الأبناء يعرفون كل شيء عن فرنسا ويجهلون كل شيء عن بلدهم الأم الذي يحيون فيه؛ فهم لا يعرفون الفراعنة ولا محمد علي ولا أي تاريخ في أي مرحلة مصرية؛ ولا ماهية الصحراء الغربية، ولا الواحات وأماكنها.. هذا بالإضافة إلى الجهل الشديد باللغة العربية.. وهناك أيضا أمر شديد الخطورة؛ فلقد قرأتْ إحدى الأمهات في منهج ابنها أن الأهرامات بناها اليهود عندما استعبدهم المصريون القدماء، وهي الدعوة التي يصرّ عليها اليهود ليقنعوا العالم بحقوقهم التاريخية في الأهرامات، ولك أن تتوقّع صدمة الأم عندما ترى ابنها مقتنعا بهذه الرواية، فلتعويض الجهل التام بالتاريخ المصري وبمعلوماته المصرية عامة ينبغي أن يوازي الأمر بقراءة مستمرة، وهو ما لا يحدث بالطبع لدينا، فلا أحد يقرأ -مع الأسف- في بلدنا؛ حيث إن معدّل القراءة ربع كتاب سنوياً لكل مواطن؛ والكتب الوحيدة التي يقرأها معظم الطلبة هي كتب دراستهم وبالعافية.. فكيف إذن سيتم تصحيح أي معلومة مغلوطة تشربها خلال الدراسة؟!! المدارس "الإنترناشيونال" أثبتت بالفعل تقدُّماً في مستوى التعليم؛ بعيداً عن العقم المصري في المناهج الدراسية، وطريقة التلقين التي تدمِّر الخيال والذكاء عند الطالب؛ لكن ما المانع في استخدام نفس أدوات الدراسة والتعليم الناجحة ليتعلَّم الطفل في مراحله الأولى تاريخ بلاده أولاً، ثم يدرس بعد إتمامه المرحلة الأساسية ما يريدون من تاريخ فرنسا أو غيرها كنوع من المعرفة؟!! الغريب أن هناك فصلاً في فَهم الأمور؛ فكثير من الأهل يظنون أنه لتعليم أبنائهم تعليماً جيّداً يكاد يكون شرطاً أساسياً فيه، كضريبة الابتعاد التام عن الهوية المصرية والعربية، ويتعاملون مع الأمر كضريبة لا بد من دفعها، وأمر واقع لا مناص من تقبّله! إجادة اللغات الأجنبية هو أمر ضروري مفروغ منه وينبغي تنميته والاهتمام به، لكن ينبغي كذلك تنمية الانتماء لديهم كذلك.. فقد كنت أحترم بشدّة أثناء دراستي بمدرستي الفرنسية حرصَ الفرنسيين الشديد على لغتهم، والانتماء إليها بقوة، وعدم الرد عليك لو تحدّثت معهم بغيرها؛ ليرغموك على التحدّث بلغتهم، لاعتزازهم الشديد بها، رغم أن بعضا منهم كان يُجيد العربية كأهلها لكنه يتظاهر بالغباء، ومع ذلك لم يجعلنا ذلك مبتعدين عن ثقافتنا المصرية في شيء. الأمر محزن بالطبع؛ وانتظار ما سيأتي يدعو للخيال، ربما تجد يوماً ما مُطالَبة بمنح "الهالوين" عطلة رسمية للبلاد!