الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، والحياة الثقافية.. أسمع المصطلح الأخير منذ عام 2005، عندما كنت أذهب للندوات بحكم عملي محررة أدبية، كنت غِرّة ساذجة أتصور أن النقد عملوه بالأساس عشان تستمتع أكثر بالعمل الأدبي، لكن الحياة بتعلّم! في بعض الأحيان كان يحدث الآتي.. أدخل الغرفة، أجلس على الكرسي بوجه باشّ -وليه لأ؟- يتحوّل مع الدقائق العشر الأولى إلى وجه فتاة يسير نمل على ساقيها، الناقد الذي يتحدّث الفصحى يبدأ باستعراض تاريخ النقد، يلقي الضوء على "التفكيكية" و"ما بعد التفكيكية"، و"الحداثية" و"ما بعد الحداثية"، يرفع ساعده ويخفضه، يميل بصدره إلى الأمام، يتكلم عن رؤى الكاتب وإرهاصاته، يفكك النص، يبدي ملامح الإعجاب، يصمت لحظة تتبعها لكن... الكاتب بدا "شوفينيا" في عالمه، ولم "يتشابك" مع الواقع، مما يجعل النص حركة "جذر مدي" (مع لمحة تأفّف على الوجه)، بعدها يدعو الناقد الأول الناقد الثاني للكلام، الذي يثني بدوره على كلام أستاذنا (الناقد الأول)، يقول إن الكاتب استطاع أن يمسك بتلابيب النص، ويرى أنه على العكس؛ فالنص وإن كان لا يتشابك مع الواقع فهو "يتماسّ" معه، وهو ما يجعل حركة السرد فيه أقرب إلى "المد الجذري"، منه إلى "الجذر المدي" (مع نظرة ساهمة تدعوك إلى التفكير فيما يقول). بعدها يُجمع الناقد الأول (أستاذنا) والناقد الثاني أن الكاتب بلا أدنى شك "لبنة مهمة" و"حجر زاوية".. أقضي تلك السويعات القليلة في تأمّل الأسقف والحوائط وإزاحة دخان السجائر وكتابة ما تيسّر.. لاحظت في تلك الندوات أن مصطلحين يتكرران؛ فالكاتب "الحداثي" كويس، لكن "ما بعد الحداثي" شيء آخر، شديد المراس، عميق، تتداخل الرؤى في نصّه، ببساطة شديدة (وببساطة أكثر) هو يقف في مرحلة فاصلة ما بين "المد الجذري" و"الجذر المدي"، ويبدو مهموما بالسرد أكثر من السرد ذاته، ينأى عن المفهوم "الكلاسّي" (خبطة على الطاولة) تجاه "أطروحات ما بعد حداثية"! كنت أجلس في الغرفة مع سبعة عشر آخرين من بلدان مختلفة؛ رائحة القهوة تتسيّد المشهد.. تصب قطرات القهوة في الدورق؛ على السطح المعدني دورق آخر به ماء.. كنت مأخوذة بأني سأفهم شيئا كان أشبه بلغز فيما مضى، ونزول قطرات القهوة في الدورق بدا شيئا يصعب عليّ وصفه، شيء ملهم، الفراشات كانت تدور حول خلجات نفسي، تمسك بها.. ترفعها إلى أعلى.. الهواء البارد خلف ظهري صار بساطا.. بالأسفل كانت هناك فتاة تشبهني.. تتطلع إليّ.. في الوقت ذاته الذي جلس فيه الدكتور "بايرز" على الطاولة فتحت الكشكول، أزاحت "فيرونيكا" الأكلاسير إلى جانبها، لتتيح لي مساحة أكبر للكتابة، أعجبتني الحركة.. أشياء صغيرة قد تصنع فارقا في لحظة ما.. إيماءة من شخص لا يعرف عنك الكثير قد تصبح إشارة سماوية.. يد تطبطب عليك، تقول لك "إنت كويس"! يقول الدكتور "بايرز" إن الانتقال من مكان إلى آخر سمة "ما بعد الحداثة"، أشار إلى خريطة الولاياتالمتحدة، أنا مثلا نشأت في ولاية، تعلّمت في ولاية، وأعمل الآن في ولاية.. فيما بعد سأقف على تلّ، أدير ظهري لجدول ماء في الصحراء؛ تحت الأرض، ستتسع الممرات، وتضيق، أشعر بالشجن عند انتهائها.. أنا أعيش في القاهرة وأعمل في الفيوم، ولا أحد يعرف موقَف الفيوم إلا من جرّبه؛ ورحت تركيا وحدي، وركبت ثلاث طائرات حتى آتي إلى هنا.. أنا كمان "بوست موديرنيست".. أبعدت الكشكول عن "فيرونيكا".. آل جهاز القهوة إلى الصمت.