اثنا عشر عاماً من عمري قضيتها في الدراسة، وكان لا يمر عليَّ عام من الأعوام إلاَّ ويرافقني أحد من الإخوة النصارى، سواء كان يجلس بجانبي على المقعد نفسه أو على المقعد المجاور في الفصل الدراسي، وكنا دائماً نتعامل كإخوة؛ يجمعنا حب الوطن، ولم تفرق بيننا في يوم من الأيام فكرة أن هذا مسلم أو أن هذا نصراني. بل وصل بنا الأمر، إلى أننا كنا نتعامل كأصدقاء، وليس كزملاء دراسة فقط، نخرج سوياً إلى فناء المدرسة في وقت الراحة. وفي أوقاتٍ كثيرة كنا نخرج إلى الشارع بين المحاضرات لنتمشى ونتسامر معاً، ويشكو كل منا حاله للآخر، وفي أحيانٍ كثيرة وبعد انتهاء اليوم الدراسي كنا نذهب إلى منزلنا لنأكل ونشرب ونتذاكر الدروس سوياً، ولم تراودني أو تراوده في يومٍ من الأيام أني مسلم أو أنه نصراني، بل كان يجمعنا الحب والوئام. وأتذكر قصة وقعت معي شخصياً، وأنا تقريباً في الصف التاسع من المرحلة الأساسية، حيث دخل أحد المدرسين علينا الفصل، وكان فظاً غليظ القلب، ينتظر لأي طالب منا أي خطأ كي يعاقبه عليه، وطلب منا أن نأتيه بالكشكول المدرسي كي يصححه، وكنت يومها لا أحمل معي الكشكول، لأن المدرس كان لا يسأل عنه إلا نادراً، وكنت في وضع لا أحسد عليه، وخائفاً جداً من بطش المدرس بي، وكان يجلس بجواري زميلي النصراني، ولخوفه عليَّ من العقاب، فكر في أن يمنحني كشكوله كي يخرجني من هذا المأزق. وبالفعل، أخرج من حقيبته المدرسية «تكت» وكتب عليه اسمي، ووضعه على الكشكول، وعندما جاء دوري للذهاب إلى المدرس، أخذت الكشكول وذهبت إليه، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل، لأن زميلي النصراني كان قد سبقني بعدة أسماء، وخرج بالكشكول للمدرس، فكان الكشكول مصححاً، فتعرف المدرس إليه من الوهلة الأولى، وسألني المدرس: هل هذا كشكولك؟ ومن الخوف أجبته: نعم! فأمسك بالكشكول عالياً وقال والشرر يتطاير من عينيه: صاحب هذا الكشكول يخرج سريعاً، فلم يخرج هذا الزميل، خوفاً من العقاب. فكرر المدرس كلامه، فلم يخرج أيضاً، ولأن هذا الزميل كان يجلس بجواري، نادى عليه المدرس بأعلى صوته، فخرج سريعاً، ويومها أوسعنا المدرس ضرباً، لأننا كذبنا عليه. وكنت يومها في غاية الحزن والأسى، ليس لأنني عوقبت بسبب كذبي على المدرس، بل لأن صديقي النصراني، حاولي إنقاذي من العقاب، فباءت محاولته بالفشل، وعوقب من أجلي. وهذا قليل من كثير، مما يحدث من حب ووئام بين المسلمين والنصارى في مصر، فلم نكن نعلم في يوم من الأيام طريقاً للفتن الطائفية، التي أشعلها أعداء الوطن، مثل زكريا بطرس، ومايكل منير، وعدلي أبادير ... وغيرهم من أقباط المهجر. وعلى الرغم من أنني أنهيت دراستي منذ فترة ليست بالقليلة، مازلت على اتصال بزملائي وجيراني من النصارى، وما زال بيننا ود واحترام وتقدير، ولي أصدقاء كثيرون منهم أعتز بصداقتهم وأحمل لهم كل حب وتقدير. وفي نهاية مقالي، أناشد رجال الدين العقلاء في مصر الحبيبة من كلا الطرفين، أن يجلسوا سوياً على طاولة المفاوضات، ويبحثوا عن حل جذري لكل المشاكل التي تحدث بين المسلمين والنصارى كل فينة وأخرى، وألا يعطوا فرصة لتدخل أي أجنبي في المشاكل الداخلية، لأنهم يعلمون يقيناً أن كل ما يحدث من فتن طائفية بين أبناء مصر هو بفعل فاعل أجنبي، لا يريد الاستقرار لبلدنا الحبيب. محمد أحمد عزوز كاتب مصري