السلام عليكم إدارة "بص وطل".. أحب أشكركم على الباب الأكثر من رائع، وأنا لثقتي في آرائكم حبيت أفضفض معاكم؛ خصوصاً بعد ما أرسلت مشكلة سابقة، وساعدتوني في حلها. أنا مشكلتي إني كنت بحب والدي جداً.. كان أقرب حد ليّ في الدنيا، كان هو سندي وحمايتي في الدنيا، كان أول حد باترمي في حضنه لما اتضايق، وهو كمان؛ برغم إني أصغر إخواتي كنت أقرب حد ليه؛ حتى لما بيكون زعلان ما كانش بيحكي لحد غيري كان مآمنّي على كل أسراره. كنت حاسة إني ملكة على العالم كله، وفجأة وكأنه فيلم سينما.. كل حاجة فيه حصلت بسرعة؛ والدي تعب جداً ودخل المستشفى، كل الأطباء كانوا بيقولوا ده مجرد أيام بيقضّيها في عمره وخلاص، كل الأجهزة في جسمه تعبت مع إنه عمره ما اشتكى من أي مرض، وكنت باموت كل لحظة، وأنا شايفاه بيروح قدامي ومش قادرة أعمل له حاجة. الحمد لله، ربنا إدانا الأمل في شفاه، وفعلاً شُفي تماماً ورجع أحسن من الأول؛ لدرجة إن الأطباء ما كانوش مصدّقين، ووقتها فضلت أشكر ربنا إنه رجّعه ليّ تاني.. وبعد شهر بالظبط والدي تعب تاني، ودخل المستشفى؛ بس المرة دي توفي. أنا وقتها كنت في ذهول تامّ؛ فِضِلت أبكي لحد ما الدموع جفّت من عيني، وقتها حسيت إن أنا اتكسرت أوي، بقت أيامي مجرد وقت في عمري بيمرّ وخلاص، وكأني كنت في حلم، وصحيت للواقع.. بقى كل واحد فينا أنا وإخواتي في وادي، كل واحد ما لهوش دعوة بالتاني، ما حدش بيحس بأخوه، ما بقيناش نتلمّ على سفرة أكل واحدة، كل واحد بياكل لوحده، ما حدش بيسأل التاني إنت زعلان من إيه، كل اللي بيهمهم الفلوس وبس.. وأمي طيّبة جداً بتحاول تكمّل رسالة والدي علشان تخلينا أحسن ناس. بدأت أحسّ إن اللي بيجمعني أنا وإخواتي إنه مجرد مكان بنبات فيه سوا وبس؛ حتى أمي لما باطلب منها أروح أزور والدي في المقابر مش بترضى، هي مش حاسة بيّ، أنا لما باروح هناك بابقى حاسة إني معاه باحسّ إنه قريب مني أوي.. هي مش بترضى علشان المقابر في الريف، وإحنا عايشين في القاهرة. بقيت أحسّ إني لوحدي خايفة من كل حاجة، حتى إخواتي وأمي؛ حاسة إني موجوعة وحاسة إن قلبي انكسر، وسندي في الدنيا راح، بدأت أكره كل اللي حواليّ، باحسّ إنهم بيعرفوني بس علشان الفلوس.. كرهت حتى إخواتي وأمي، بجد أنا بقيت حاسة إني محتاجة حنان، ما بقيتش أحسّ بالأمان خالص كل يوم أحلم بكوابيس. آسفة إني طوّلت عليكم؛ بس أنا عايزة حد يقول لي أعمل إيه علشان أرتاح.. بجد تعبانة أوي.. وشكراً. kota أولاً وقبل كل شيء تقبلي عزائي وعزاء إدارة الموقع في وفاة والدك رحمة الله عليه؛ سائلين الله عزّ وجلّ أن يُسكنه فسيح جناته. شيء مفجع أن تختطف منّا الدنيا -هكذا وفي لمح البصر- أعزّ من نعرفهم، هكذا وبدون إنذار أو مناسبة ينتهي وجودهم، تنقطع سيرتهم، يتوقف ذكر اسمهم أو يتلاشى مع التدريج.. هذا الشخص هو كل عالمنا، هو البداية والنهاية، هو مخزن الأسرار ومفتاح الحل لأية مشكلة.. هو ببساطة والدنا الذي لا يأتي في العمر سوى مرة واحدة. شيء مفجع أن تنتهي حياة من نحبهم وينقطعوا عنا في لمح البصر، ولا يبقى منهم سوى أشياء مادية؛ فرشاة أسنانه، ملابس معلقة، وذكريات المكان الذي كان يجمعنا. فقدانك للأمان عرفتي معناه بعد رحيله، وترين الدنيا في ثوب جديد موحش لا ملامح له؛ فكلّ يوم يشبه ما قبله، والوتيرة واحدة، حياة بلا معالم يسكنها الكوابيس، أو رؤيا أبيك في منام لتستيقظي فرحة بلقائه في نومك.. إحساس موحش أن تري الوجوه مختلفة؛ بل كل العالم؛ الأقارب والأخوات أصبحوا أناساً آخرين، وكل هذا في لحظة فصلته عنك ولا تستطيعين إدراكها.. تتمنين أن تستيقظي ذات يوم وتجدي كل هذا حلماً وأباك معك في بيت العائلة الدافئ؛ ولكن يا صديقتي هذا حال الدنيا؛ فالكل راحل منها.. وأبوك رجل صالح لأنك ابنته التي تتذكره ولن تنساه بدعوة ينتظرها منك؛ فلا تنسي أنه ربّاك، وجاء اليوم لترُدّي له جزءاً من الجميل وتتذكريه في صلاتك ودعائك. ولكن يا صديقتي العزيزة الحياة لا تأخذ بل الله عز وجل هو من يأخذ.. الله، أي طاقة رحمة واسعة تستوعب البشرية وتفيض؛ فهل تتخيلين أن الله عز وجل يُمكن أن يستردّ أعزّ من تعرفينه وأقربهم لقلبك من أجل الإبقاء عليك في الدنيا وحدك دون سند؟! كيف وهو من زَرَع في قلوبنا الرحمة؟ كيف وهو من أرحم علينا من أنفسنا؟ بالتأكيد لديه حكمة.. فهل لديك الطاقة كي نتأمل حكمته سوياً في السطور التالية؟ أولاً دعيني أسألك سؤالاً بسيطاً.. أين تقبع روح والدك الطاهرة في الوقت الحالي؟ بالطبع لا يمكننا الجزم؛ ولكننا نتمنى أن تكون في جنات الله ونعيمه الفسيح، أي في مكان أفضل بكثير من ذاك الذي نعيش فيه؛ فيجب عليك أن تفرحي أن والدك تخلّص من الآلام التي كانت تؤرقه في الدنيا، وانتقل إلى مكان محلل فيه كل شيء إلا الألم والموت. بعد عمر طويل سوف تجتمعين أنت ووالدك حيث اللافراق؛ حيث أنتما سوياً إلى الأبد، ولا هادم ملذات يفرّق بينكما من جديد؛ ولكن يجب عليكِ أن تجعلي هذا اللقاء مَرْضيًّا عنه من الله عزّ وجل، الله الذي لن يُرضيه اعتراضك على قضائه؛ فهي روحه جاء بها للحياة وقتما أراد وأخذها وقتما أراد. وإلى أن يحدث ذلك، يجب أن تعيشي العالم من حولك، ومع مرور الوقت ستخرجين من الحلقة الضيقة التي تعيشين بها، ستدركين أن حب أمك بداخلك لا يقلّ عن حب أبيك.. عيشي الحياة واخرجي من تلك الحلقة.. عيشي وكأنه يشعر بك، افعلي ما كان يتمناه لك؛ وكأنه بجانبك يراك.. تخيّلي الابتسامة على وجهه لتكون حافزاً لك في الدنيا؛ فهو بداخلك، وما زلتِ تحملين اسمه إلى جانب اسمك؛ فكوني ابنة يفتخر بها دائماً. ولكن لي عليك عتاب بسيط في تأكيدك على كرهك لوالدتك التي تبدّل حالها بعد وفاة أبيكِ، وبالتأكيد هي كلمات خبيثة حَشَرها الشيطان فوق لسانك؛ فخرجت في لحظات غضب وعدم اتزان نفسي، ودعينا نناقش الأمور بقليل من الهدوء والتروي: هل حزنت على والدك أكثر من أمك؟ هل أفجعك موته أكثر مما أفجعها؟ هل انكسر قلبك كما انكسر قلبها؟ الإجابة: لا؛ حتى لو بدا لك عكس ذلك؛ حتى لو بَدَت أمامك متماسكة؛ فهي منهارة بكل ما فيها وداخلها، حتى لو جفّت خدودها؛ فهي تبذل جهداً جباراً كي تبقي شلالات دموعها حبيسة في جفونها؛ لأنها لو وقعت لوقعتم جميعاً، لو انهارت لانهرتم جميعاً، لو ضاعت لضعتم جميعاً.. إنها لا تملك حتى حق البكاء على زوجها؛ حفاظاً على أسرة جاهد هو طيلة حياته كي يُبقيها متماسكة. إنها تحوّل كل حبها وحزنها على أبيكِ إلى محاولات مستميتة من أجل الحفاظ على هذا الكيان.. إنها الآن الأب والأم والأرملة وربة البيت وكل شيء في شخص واحد، ومطلوب منها أن تحافظ على كل هذه الشخوص في كيان واحد أمامكم؛ دونما أن تنهار؛ بينما هي بداخلها الانهيار ذاته.. رفقاً بها يا صديقتي أرجوكِ رفقاً بها. أما إخوتك الذين هامو على وجوههم في الدنيا؛ فلا يمكنني على وجه الدقة تحديد حالتهم، ما إذا كانت صدمة وحزناً تُرجم بشكل مختلف، أم شكّل وفاة أبيهم انحلال قيد أسري شعروا بعده بشعور الحرية.. ولكن أياً كانت حالتهم فلتسعيْ أنت إليهم؛ فلتضمّيهم برغم أنهم أعرضوا عنكِ؛ فلتحبيهم وتذكّريهم بالمشاعر التي كنتم تنعمون بها في وجود والدك. حاولي إعادة ربط خيوط تلك الأسرة قبل أن تتباعد أطرافها ويصبح من المحال تجميعها.. افعلي هذا من أجل أبيكِ إن كنتِ حقاً تحبّينه.. صديقتي لا تربطي زيارة المقابر بأبيك؛ هذا ليس المكان الذي كان يجمعكما معاً، وادعي له في أي مكان فستصله دعوتك. واسمعي هذه الكلمات من الله عزّ وجل لأبيكِ لو كان الحزن بعده يطاردك: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي}.