يحتشد الرأي العام هذه الأيام بأشكال وألوان من التحرش الذي لم يعُد يقتصر على التحرش الجنسي الذي يفجّره الغوغاء والمراهقون في زحام الشوارع؛ بل أضيفت إليه ألوان من التحرش اللفظي والجدل الذي لا يُفضي إلى نتيجة بديلاً عن الحوار، الذي تتباري أطرافه في حشوه باللغو والسباب والتهكّم والاتهام المتبادل على صفحات الصحف، أو شاشات التليفزيون، أو وسائل الإعلام المختلفة على الإنترنت والفيس بوك وغيرها. يكفي أن يقول أحدهم كلمة أو عبارة، تُنتزع من سياقها؛ لتثير زوبعة هائلة تفجّر سيولاً من الغضب والاتهامات التي تنتهي في كثير من الأحيان إلى النيابة العامة والمحاكم.. ويتحول المجتمع كله إلى جماعة "طرشان"، لا أحد يسمع ما يقوله الآخر، وإذا سمعه؛ فإنه يفهمه على محمل السوء ويصرّ عليه. وهذا بالضبط ما حدث عندما روى هيكل في الحلقة الأخيرة من برنامجه الشهير "مع هيكل" على قناة "الجزيرة" بعض الملابسات التي أحاطت بوفاة الزعيم الراحل عبد الناصر، والشائعات التي تردّدت حول الرئيس السادات.. وقد حسم هيكل هذه الشكوك بشأن اغتيال عبد الناصر، ونفى أي دور للسادات. ولم يأت ذكر هذه الملابسات من فراغ أو لمجرد الرغبة في التشهير؛ فقد كانت هناك قوى معادية (إسرائيل وأمريكا) لا تُخفي عداءها لعبد الناصر ورغبتها في التخلص منه. وكانت الوفاة المفاجئة لعبد الناصر سبباً في هذه الشائعات. كان من الممكن أن تمرّ هذه القصة ضمن كثير من التفاصيل التي يرويها هيكل في حلقاته، دون أن تهب هذه الأعاصير من جانب بعض الأقارب وكذّابي الزفة والباحثين عن أسباب "الشعبطة" في أذيال هيكل؛ فتاريخ مصر في هذه الفترة ملغوم وملتبس يصعب فرزه. ولن تعرف -في رأيي- أسراره قبل نصف قرن على الأقل.. وحين يُرفع الستار عن هذه الحقبة ويفرج عن وثائقها فسوف نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
وخذ مثالاً آخر على إعصار الشماتة الإعلامية التي هبّت على "الأهرام" بسبب التلاعب في صورة ملوّنة للرئيس مبارك بأساليب الفوتوشوب؛ لتضعه في مقدمة فريق المفاوضات في واشنطن، إيحاء من المحرر بأن الدور الذي تلعبه مصر في مفاوضات السلام المباشرة دور محوري مركزي يكاد يفوق دور الرئيس أوباما نفسه. ولا أظن أن هذا التصرف -برغم سذاجته والذي أصبح في عيون الصحافة المتربصة والمنافِسة خطيئة لا تُغتفر- كان مقصوداً بحد ذاته، أو مطلوباً من جهة عُليا، أو من عقل سياسي حصيف يُدرك تأثير الإعلام على الجماهير؛ فلا أساليب التأثير الإعلامي أو التضليل الإعلامي يمكن أن تنصح بذلك، أي: بالتلاعب في صورة تعكس واقعاً عالمياً، تمّ نشره في جميع أنحاء العالم. وبقدر ما ينطوي عليه تزوير صورة من خطأ مهني لا يقبل العذر؛ فإنه في نهاية الأمر انعكاس لأوضاع في الصحافة المصرية والعربية التي لا تحفل كثيراً بالدقة والموضوعية؛ مع استسهال غير مأمون في صياغة الخبر أو القصة الصحفية. وقد كان من الطبيعي أن يُحدث هذا الخطأ ردود فعل حادة، تجاوزت -في بعض الأحيان- ما يقتضيه العرف الصحفي من التماس العذر للمناخ العام الذي تتنفس فيه الصحف الحكومية. وانظر مرة أخرى إلى الجدل العقيم الذي يثيره مسلسل "الجماعة"، وقد خرج من نطاق النقد لعمل درامي ذي أبعاد سياسية، إلى عمل سياسي ذي أبعاد درامية، تتبادل فيه الأطراف اتهامات التخوين والتهديد والتكفير والتبعية والعبث بالدين في خدمة السياسة. ويحق للمرء حينئذ أن يتساءل: هل تفيد الدراما بهذه الصورة في تربية الوجدان العام لهذا الشعب، وتزويده بالمعارف الأساسية التي تشكّل الأساس السليم لفهم ما يجري في وقتنا الحاضر من خلافات سياسية ودينية، توشك أن تُغلق طريق التفكير والإبداع الذي يُفضي إلى الحرية أمام أجيال حائرة بائرة؟ في كل ذلك تظلّ المشكلة المحورية -في رأيي- هي انزلاق الصحافة والرأي العام إلى مزيد من المحلية وانعدام الرؤية خارج ما تُدركه الحواس المباشرة؛ فيزداد انحصار المصريين على أنفسهم؛ بالمبالغة في مدح الذات وتقديس الزعامات وتجاهل الأخطاء والاهتمام بسفاسف الأمور. ولم تكن برامج التلفزيون في رمضان غير انعكاس لذلك!! نُشر بالشروق بتاريخ 22 /9 /2010