في أعقاب حرب 1967م وما نتج عنها من احتلال إسرائيل لسيناء والضفة الشرقية لقناة السويس كان القادة الإسرائيليون آنذاك أمثال جولدا مائير وموشي ديان يقفون على ضفة القناة، ويُمعنون النظر في مياهها، وتسرح مخيلتهم في استكمال تحقيق حلم الدولة الصهيونية الكبرى والمترامية الأطراف، ولكنهم سرعان ما أفاقوا من شطحاتهم تلك بسقوط المئات من جنودهم يومياً قتلى في مياه تلك القناة نفسها، برصاص الجنود المصريين البواسل أثناء حربي الاستنزاف وأكتوبر. ولكن رغم إجبار الجيش المصري إسرائيل على الانسحاب من كامل أرض سيناء وعودة الضفة الشرقية للقناة للسيادة المصرية، ورغم مرور كل تلك السنوات فإن الإسرائيليين لم ينسوا تلك الأيام، ولم ينسوا قناة السويس التي كانت تُعتبر بالنسبة لهم الخطوة الأولى في طريق تحقيق حلم الدولة اليهودية الكبرى. لذلك قام الصحفي الإسرائيلي بصحيفة هاآرتس "بني تسيفر" وبرفقته المصوّر الصحفي بنفس الجريدة "نير كفري" في شهر أكتوبر من العام الماضي بجولة مصوّرة شملت المدن الأربع المطلة على قناة السويس (الإسماعيلية – فايد – السويس - بورسعيد)، بالإضافة إلى العاصمة المصرية، وذلك في ذكرى مرور أربعين عاماً على بدء حرب الاستنزاف، سجّلوا خلالها انطباعاتهما عن كل مدينة منها. وهنا سوف نترككم تتابعون ما قاموا به في كل مدينة؛ لمحاولة التعرف على النظرة الإسرائيلية لتلك المنطقة الهامة التي كانوا في الماضي –ولا يزالون- يحملون أطماعاً كبيرة تجاهها. الإسماعيلية الفاتنة: قدّم الصحفي الإسرائيلي "بني تسيفر" إلى القاهرة وتوجّه إلى محطة الترجمان، واستقل منها الباص إلى مدينة الإسماعيلية التي يشير إلى أنه عشقها بشدة، وفُتن بها، مما جعله يتردد عليها عدة مرات خلال زيارته هذه، وقام بتخصيص جزء كبير من مقاله الذي نشره في الصحيفة الإسرائيلية وفي مدوّنته لهذه المدينة، رغم أنه يؤكد أن زيارته لهذه المدينة لم تمرّ بسهولة، حيث شعر أثناء تواجده في مدينة الإسماعيلية أن كلمة إسرائيلي لا تزال تثير الشكوك البالغة، فحينما أراد هو والمصوّر الذي برفقته استقلال المعدية للعبور للضفة الشرقية لقناة السويس؛ لمشاهدة النصب التذكاري للجندي المجهول ومنطقة تبة الشجرة التي يوجد بها مزار إحدى النقط الحصينة لخط بارليف (الذي يصفه الصحفي الإسرائيلي بأنه أدى إلى زيادة ثروات المقاولين الإسرائيليين الذين أثروا بدورهم الطبقة البرجوازية الإسرائيلية التي زادت ثرواتها بشكل كبير من سفك الدماء والأسمنت الإسرائيليين في رمال سيناء). وحينما وصلا إلى المعدية، وانتشر خبر أنهما إسرائيليان، تلقّفت أيدي أفراد الأمن المصريين جوازَي سفرهما، وقاموا بالتحدث في أجهزة اللاسلكي بشكل مكثّف، وتم التحقيق معهما وتدوين كل ما يقولانه، وقام ضابط مصري يصفانه بأنه ذو ملامح عدوانية بالتحدث معهما، إلا أنهما لم يفهما معظم كلامه، واضطرا للانتظار ساعتين إلى أن وصلت وحدة من أفراد الشرطة العسكرية رافقتهما أثناء عبور القناة، وطوال فترة تجوّلهما في الضفة الشرقية للقناة. ويضيف الصحفي الإسرائيلي أنه أقام خلال تواجده بالإسماعيلية في فندق "التمساح" الصغير الذي به عامل مطبخ واحد هو نفسه الجرسون وموظف الاستقبال، ويتحدث عن جولاته في المدينة بوصفه متحف الآثار الذي يضم الآثار التي تم اكتشافها أثناء حفر القناة، والمُقام على هيئة معبد يوناني، ولفت نظره الإهمال الذي يعانيه المتحف؛ حيث إن الآثار التي به موضوعة داخل علب زجاجية متّسخة لم يتم تنظيفها أو مسح الأتربة من عليها من زمن طويل. كما أنه أُعجب بالأطعمة البحرية المُقدّمة في مطعم "أبو علي" الشهير الذي يقول إنه من الصعب أن تجد طاولة خالية به، وكذلك مطعم بيتزا يُدعى "ميلودي"، كما أنه كان يفضّل الجلوس على أحد الشواطئ الخاصة المطلة على منطقة التقاء قناة السويس مع بحيرة التمساح، والذي يبلغ ثمن الدخول إليه 15 جنيها مصريا. وفي نهاية جولته بالإسماعيلية شاهد "تسيفر" حدائق التنزّه العامة هناك، والتي أُقيم في وسطها نصب تذكاري لتخليد ذكرى حرب أكتوبر، يضم أربعة دبابات إسرائيلية تم أسرها في تلك الحرب، وهي الدبابات التي يصفها بأنها تحوّلت من أداة للترهيب والتخويف إلى لعبة يلهو بها الأطفال المصريون المترددون على الحديقة. ويدّعي "بني تسيفر" هنا أنه طوال فترة تواجده في الإسماعيلية طلب منه العديد من الأشخاص مساعدتهم في الحصول على فيزا للعمل في إسرائيل، ويقول هنا إنه من العجيب أن الطرف الذي خرج منهزماً في حرب 73 أصبح أغنى من الطرف الذي خرج منتصراً. فايد التي لا يُرى فيها البحر: توجّه "بني تسيفر" إلى فايد التي شهدت أحداث الثغرة الشهيرة في عام 73، ووجد أن المنازل والفيلات المقامة على سواحلها تحجب رؤية البحيرات المُرة تماماً، ويتطلب منك الدخول إلى الشواطئ الخاصة برسوم؛ لكي تتمكن من الاستمتاع بمنظر المياه، لذلك قرّر التوجه إلى شاطئ ومطعم Six Corners الشهير، وتناول به وجبة سي فود، ثم توجّه لزيارة مقابر جنود الحلفاء الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية، ويقول إنه عند دخولها شعر وكأنه دخل الجنة؛ بسبب العشب الأخضر الجميل الذي يكسوها –والذي لا تجده في مقابر أهل فايد أنفسهم- وتختلف عن طبيعة هذه المنطقة الصحراوية. السويس التي من الصعب العيش بها: على عكس انبهاره بالإسماعيلية لم يُعجب الصحفي الإسرائيلي "بني تسيفر" بمدينة السويس، التي يصفها بأنها مثل جهنم في شدة حرارتها التي لا ترحم، وبسبب التلوث الكبير الذي تعانيه المدينة، والناتج عن معامل تكرير البترول، والدخان الأسود المتصاعد من تلك المعامل. وأراد الصحفي الإسرائيلي مشاهدة ميناء الصيد في السويس الذي قرأ عنه كثيراً، إلا أنه مُنع من الدخول إليه، وحاول بكل الطرق أن يدخل إلى هناك (بدون أن يذكر سببا لهذا الإصرار) إلا أنه فشل، رغم أنه عرض على رجل الأمن المسئول عن بوابة الميناء رشوة وصفها بالبقشيش، فعاد إلى القاهرة حزيناً، ولكنه يقول إنه سيأتي يوم يتمكن فيه من اكتشاف أسرار السويس؛ لأنه يعلم أن ما هو ظاهر أمام الأعين في تلك المدينة ليس هو كل شيء، وأن هناك سحرا يكمن في تلك المدينة لم يصل إليه بعد!!!. بورسعيد وعلاقة القمامة بالاحتجاج: يقول الصحفي الإسرائيلي إن منازل موظفي هيئة قناة السويس في بورفؤاد المبنية منذ القرن الماضي ذكّرته بالأحياء التي أقامها الألمان في أرض فلسطين في الماضي، إلا أن الفارق أنه استشعر أن اليأس والإحباط منتشر في بورسعيد، وأكبر دليل على ذلك من وجهة نظره هو أكوام القمامة المنتشرة في شوارع تلك المدينة، حيث تحوّلت المسطحات الخضراء في المدينة إلى تلال من القمامة. وسبب ذلك -حسب زعمه- أن إلقاء القمامة في الشوارع يُعدّ تعبيراً واضحاً عن عدم الرضا وعن الشعور بالإحباط من قبل أشخاص مقهورين، ليس في استطاعتهم التظاهر علانية، لذلك يقومون بهذه الفعلة كنوع من التظاهر الهادئ، من خلال تلويث البيئة للتعبير بشكل غير مباشر عن أن حياتهم لا تستحق أن يعيشوها. ويزعم أن كل شيء في بورسعيد يشتاق إلى الماضي السعيد الذي كانت تعيشه المدينة أثناء حقبة الاستعمار ابتداء من رصيف فلسطين المطلّ على القناة، ومروراً بفيلات وُجهاء المدينة في الماضي -المغلقة حالياً- وقبّة كنيسة "مريم ملكة العالم"، وانتهاءً بمبنى إدارة هيئة قناة السويس الأثري العريق. وأثناء تجوّله في المدينة شاهدا مجمع "سيمون أرتست" التجاري اليهودي –المغلق حالياً- والذي كان من أشهر متاجر بورسعيد الراقية، ووجد لافتته لا تزال معلقة عليه كنوع من ذكرى الماضي، ثم جلسا على كافتيريا في شارع زغلول مقابلة لمكتب البريد الفرنسي الخرب، ورغم أن هذا المحل مكتوب عليه "كوفي شوب" بالإنجليزية فإنه لا يوجد به شاي أو قهوة بل مجرد ثلاجة مشروبات غازية، ولا يوجد زبائن سواهما، ويشير "تسيفر" إلى أنه عندما أراد دفع ثمن زجاجات المياه الغازية التي شرباها قال أحد العاملين في الكافتيريا لزميله: "خذ منهما عشرين جنيهاً"، فتردّد الثاني قليلاً وردّ عليه: "لا؛ هذا كثير جداً"، وطلب منهما خمسة عشر جنيهاً، ولم يكن هذين العاملَيْن يعلمان بالطبع أنهما يفهمان اللغة العربية. مغامراتهما في القاهرة: في ختام رحلتهما إلى مصر عاد الصحفيان الإسرائيليان إلى القاهرة، ومرّا فيها بثلاث مغامرات مثيرة بالنسبة لهما؛ هي: تُرَب الغفير: كانت المغامرة الأولى عبارة عن زيارة لتُرَب الغفير، لمشاهدة كيف يعيش الأحياء بجوار الأموات، حيث يدعي "تسيفر" أن سكان تلك المقابر هم من مهجّري مدن القناة الذين هُجّروا منها عقب النكسة، ونزحوا إلى القاهرة، وسكنوا تلك المقابر؛ لعدم وجود مكان يستوعبهم (ولا أدري من أين جاء "بني تسيفر" بهذا الزعم الغريب؟!!)، ويضيف الصحفي الإسرائيلي أنه وجد أن كل فرد من سكان تلك المقابر يتقمّص شخصية الميت الراقد بجواره، فمثلاً قابل رجلاً يبدو عليه الوقار، واكتشف أن سريره ملاصق لقبر أمير الشعراء أحمد شوقي!، وشخصا آخر يقيم بجوار قبر "أحمد بك توفيق" (أحد جنرالات الملك فاروق)، وهذا الشخص أيضا يبدو وكأنه هو نفسه جنرال!. حمام بلدي في خان الخليلي: المغامرة الثانية التي قام بها الصحفي الإسرائيلي تضمّنت لقاءً سرياً مع "الست أم سيد" صاحبة حمام بلدي في منطقة خان الخليلي يُرتكب فيه جرمان مخالفان للقانون؛ المخالفة الأولى –حسب ادّعاء الصحفي الإسرائيلي- أن الشواذ يقصدونه ليلاً لممارسة الأفعال المنافية للآداب، وهو الفعل الذي يجرّمه القانون المصري. والجريمة الثانية أن البخار المتصاعد من مياهه الساخنة يُستخدم في طهي قِدر الفول التي يتم توزيعها في الصباح على محلات بيع الفول بواسطة عربات كارو، وأسلوب الطهي هذا أيضا تحظره وزارة البيئة المصرية؛ لخطورته على الصحة العامة. مطرب سوري يغني "قوم يا مصري": المغامرة الثالثة كانت على مقهى في حي الجمالية حيث استمعا إلى مطرب عجوز وهو يشدو بالأغاني القديمة، وقدم إلى طاولتهما وتعرّف عليهما وعرّفهما بنفسه، حيث ذكر لهما أنه مطرب سوري قدِم إلى مصر، وينتظر منذ خمس سنوات الحصول على فيزا لكندا، وغنى لهما أغاني من الفلكلور السوري والمصري مثل أغنية "جمال الشام"، وأغنية "بلادي بلادي"، وأغنية "قوم يا مصري مصر دايما بتناديك"، وحينها همس الصحفي الإسرائيلي "بني تسيفر" قائلاً: "ربما من الأفضل أن يظل المصري نائماً".