بالأمس فقط انتهيت من قراءة كتاب د. يوسف زيدان الممتع "اللاهوت العربي" والذي استعرض خلاله الصورة التي كوّنتها كل ديانة عن الله عزّ وجل، وكمّ الدماء التي أريقت في طريق استقرار كل جماعة على صورة واحدة لله عز وجل. وحتى لا تخطئ الظن بي -عزيزي القارئ- وتتخيل أنني هنا في معرض الحديث عن هذه الصورة التي توصّل إليها كل طرف، أو أنني أنوي الدخول في نفق مظلم من الطائفية "العيالي"، فأنتصر فيها لصورة الله المثلى التي رأى فيها أهل ديانتي الله عز وجل.. فاسمح لي أن أعكّر صفوك -إن كان هذا ما كنتَ تظنه- كي أخبرك أنني أنوي فتح باب الرغي والفضفضة في موضوع أخر غير الحديث عن تصورات لاهوتية؛ لأن هذا أمر لا خلاف عليه بالنسبة لي ومحسوم منذ أن خُلقت الخليقة، وفُردت البسيطة من 4 مليون حول كاملين. عن مصر يوسف زيدان أنوي الحديث، مصر اليهودية، مصر المسيحية، مصر الإسلامية، عن مصر التي أنارت بأعمدتها الدعوة لكل دين من هذه الأديان، عن مصر التي كانت دائماً وأبداً بطل الأحداث في التاريخ الذي حكته التوراة اليهودية والتاريخ الكنسي المسيحي والقرآن الإسلامي. لقد سرحت عبر السطور المتتالية التي نسجها د. يوسف زيدان بأنامله.. كيف لعبت مصر دورا قويا في الأحداث المؤثرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى في تاريخ الديانة اليهودية.. فهي ذلك البلد الذي أفرد له سفر التكوين فصلاً كاملاً، هي ذات البلد الذي دخله موسى كليم الله عليه السلام ودخل في صراعات عاتية مع فرعون مصر، وفي صحرائها المديدة بسيناء حُكم على أهل التوراة بالتيه أربعين عاماً، وفي جبل طورها كان الكلام المقدّس الذي تكلّمت به الذات الإلهية مع موسى عليه السلام، وفيها كانت الألواح المقدّسة التي وجدها موسى، وتركها أمانة فيما بعد لأخيه ولسانه هارون. وفي مصر التوراتية حلم اليهود -منذ أن حلّوا ضيوفاً في الوجود- بأن يملكوها ويدخلوها، وأن تكون حداً ثانياً لمملكتهم بجوار العراق، وسيدحض الله أمانيهم ولن ينالوا ما يحلمون. وفي مصر المسيح جاءت السيدة العذراء إليها، وحطّت بها رحالها، وفيها كانت كنيسة الإسكندرية واحدة من كنائس أربع تحكمت في مصير الديانة على وجه الكرة الأرضية؛ بجوار كنيسة الإمبراطورية بروما، وكنيسة أنطاكية بالشام، وكنيسة القسطنطينية أو الجناح الشرقي للإمبراطورية الرومانية. فكنيسة الإسكندرية كانت في مرحلة من المراحل وتحديداً بعد سنة 325 ميلادية هي الكنيسة الأم في العالم، عندما فرضت رؤيتها لله وللمسيح على العالم أجمع، وفرضت كلمتها على الإمبراطور الروماني نفسه، وهي التي قتلت و"سحلت" كل من أرسلته الإمبراطورية الرومانية كي يكون أسقفاً لكنيسة الإسكندرية، ومواليا للكنيسة بروما وغير مصري. هي مصر نفسها التي شرّفها القرآن الكريم بالذكر خمس مرات، وأوصى النبي محمد صلّى الله عليه وسلم بأن نتخذ من رجالها جندا؛ فهم في رباط إلى يوم الدين، وفي مصر كان الأزهر الذي يُنسب إليه الفضل بعد الله في التعريف بالإسلام في أنحاء الكرة الأرضية شتى، حتى كان اسم الإسلام مقترناً بالأزهر، رغم أن الوحي لم ينزل بمصر. هي مصر التي حكمت المسلمين في عهد الدولة الفاطمية.. وهي التي كانت أحد أجنحة الدولة الأيوبية التي أوقفت الزحف الصليبي بقيادة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي. فأين هي مصر الآن؟ مع الأسف مصر الآن لم تعد تملك أكثر من السطور السابقة، التاريخ ولا شيء غيره، توقّفت عجلة العزة والكرامة، وعلاها صدأ المذلة والإهانة والنفاق والتزلّف والاتكال البغيض. وفي هذا الموضع بالتحديد واستباقاً للأحداث؛ فلا داعي هنا للمزايدة عليّ في حب الوطن؛ فلا أقسى عليّ وأمرّ من تلك العبارات التي خططتها بيدي، ولا داعي أيضاً لتذكيري بالنماذج المشرّفة التي تحاول جاهدة أن تعيد مصر لمقعد الريادة الذي سُرق منها في لحظة غفلة وحالة سُكْر، فهذه النماذج هي في النهاية مجرد نماذج منفردة، وإن كانت متفرّدة، فرع طيب من ساق خبيثة، نبتة مثمرة وسط محصول أصابه العطب، معجزات بقيت في زمن اندثرت فيه المعجزات. فأحمد زويل، ومصطفى السيد، ومجدي يعقوب، ونجيب محفوظ، ومصطفى مشرفة، وطه حسين، ويوسف شاهين، وداليا مجاهد -مع حفظ الألقاب لهم جميعا- كلها معجزات في أرض لم تعد تُثمر سوى دماء أولادها. متى سقطت مصر؟ سؤال طرحته على نفسي كثيراً، وحاولت الإجابة عنه.. سقطت مصر عندما علت الأنا وهيمنت، عندما بات همّ رأس أي سلطة ترد على مصر هو توفير شحنة "الشحاتة" السنوية من القمح الذي به وبه وحده كانت تحترمنا الحكومات، وتخضع لنا الشعوب، حتى كادت الأرض التي تنبته أن تكتب على وريقاته: "زُرع في مصر يا شحاتين"!، بينما هي الآن أبت أن تُخرج لنا خيرها، مطالِبة إيانا بالبحث عن خير آخر في غابات روسيا المحترقة، ولماذا؟ لأن أيدي أبنائنا -على ما يبدو- أنِفَت طين أر ضها، فأنفت أرضها أن تستجيب لبذورنا التي نلقيها بين ثدييها؛ طلباً لقمح غير متعوب فيه، فلعنتنا قائلة: "لا تأكل الحرة من ثدييها، وأنتم لم تعودوا أحراراً، وقد نضب الخير حتى من بين ثديي أنا". سقطت مصر عندما بات فيها النفاق والتزلّف والنطاعة أسلوب حياة وشعارا مرفوعا دائماً على أية لافتة انتخابية -واللي مش عاجبه يرفع لافتة "الإسلام هو الحل"- رغم أننا أضعنا الإسلام وفشلنا في إيجاد الحل. سقطت مصر عندما أصبحت السيارة ال128 شكلاً من أشكال الرفاهية، قبل أن تسقط من فوق الطريق الدائري، وعندما دخلنا المساجد لنقتل إخواننا للثأر؛ بحثاً عن كرامة قبلية بعدما ضاعت كرامة الوطن!. سقطت مصر عندما أصبح النوم شعارنا الرسمي في العمل، وإن استيقظنا استبدلناه بشعار آخر وهو النفاق بغية نجاح سهل في وطن لا نجاح فيه سوى للمنافقين والفاسدين. إذا كان منكم من يعرف طريقاً نحو حبل ننقذ به مصر من بئر الضياع التي سقطت فيها منذ عقود فليدلّني عليه، وإن لم تجدوه فلتصنعوه.. عقدة من الكرامة، وعقدة من العمل، وعقدة من التاريخ.... يصنعون معاً حبل إنقاذ الوطن.
فأنقذوها؛ فهي تستحق الإنقاذ.. وإلا فلا تسألوا مرة أخرى عن الخلاص.