شهر ليس كالشهور، ولن يكون، وبخاصة بعد أن اختطفه الحلف الرباعي المكوّن من: شركات إعلان -لبعض كبار المسئولين نصيب فيها- ونخبة من المشاهير والساعين في كل الطرق وبكل السبل وراء الشهرة، وجماعة منتقاة من مقدمي برامج ومذيعات ومذيعين، ورابعهم جهاز إعلامي مكلّف رسميا بإلهاء شعب كامل وعريق عن طريق تعميق الوعي بفضائل التسلية المعتمدة على ترويج النميمة ونشر الإشاعات. أدركت هذه الأطراف جميعا أن بعض الناس يريد دائما أن يكون قريبا من ذوي السلطة والمال والأعمال وأبطال الرياضة ونجوم الشاشة والغناء. أدركت أيضا أن بعض الناس يفضّلونها سريعة، وأقصد التسلية، مثلها مثل صداقة هذه الأيام والحب والعمل والمتعة، ومنذ أن صار كل سريع ورخيص وسطحي مرغوبا فيه أو مفضّلا على غيره. على كل حال لسنا النوع الوحيد من الكائنات الحية الذي يسعى ليكون قريبا من المشاهير ويفضّل المتعة السريعة والسطحية، فكما أننا نعرف أن بعض الناس سواء في مضارب البدو كما في القرية والمدينة يتزاحمون عند مرور ركب لشخصية معروفة، فإننا نعرف أيضا أن بعض القرود لا يختلف عن هذا البعض من الناس. فقد أجريت تجارب علمية على ذكور القردة، تيقّن الباحثون من خلالها من أن ذَكَر القرد مستعد للتخلي عن طعام يألفه ويحبه حبا شديدا؛ إذا أتيحت له فرصة لمشاهدة صور قرود أعلى مقاما في الجماعة التي ينتمي إليها أو إلى جماعة أخرى يعرفها!. لاحظ الباحثون أيضا أن هذا القرد نفسه تخلى عن طعامه المفضل وأزاحه جانبا، عندما عرضوا عليه صورا لمؤخرات إناث القرود. أعرف كثيرات وكثيرين يقضون ساعات طويلة، وبخاصة في هذا الشهر الكريم، يحلمون بشخص مشهور ويتصورون أنفسهم في مكان يجمعهم به، يتحدثون إليه، ويستمعون بلهفة وإعجاب لما ينطق به، ويأكلون معه، ويركضون، ويمرحون، ويمارسون في الحلم ما حُرِموا منه طويلا، أو تمنوا أن يحدث ذات يوم. وقد أثبتت الدراسات أنه كلما زادت المعلومات لدى شخص مغمور أو عادي عن شخصية مشهورة، تضخّمت خيالاته وتصوراته عما يتمنى أن يقع بينهما عندما يقترب منه. بعض ممن نعرف يقرّ بأنه يعرف أسماء أفراد عائلة المشهور الذي يفضّلونه ويسعون للاقتراب منه فردا فردا، ويحفظون عن ظهر قلب سيرة حياته، ويتخيلون أنفسهم معه في مواقع وظروف معينة ويصنعون في خيالهم حياة له هم شركاء فيها. سمعت كثيرات يعلنَّ غيرتهنَّ وحسرتهنَّ وفرحتهنَّ. ورأيت كثيرين عاجزين أمام مشهورة بعينها عن إخفاء مشاعر جرت العادة والتقاليد على إخفائها في حضور نساء وأطفال. ما لا يدركه الكثير منا هو أن علاقة الفرد العادي بالشهرة والمشاهير "علاقة من طرف واحد"، بمعنى أنها قد تكون ساخنة جدا إلا أنها علاقة أحادية أساسها الوهم، وهنا تكمن خطورتها؛ لأنها غالبا تأتي على حساب علاقات صداقة وقرابة وعلاقات غرامية حقيقية، كذلك فإن الخيال الخصب الذي يرعى هذه العلاقة وينميها يخلق في الوقت نفسه حرمانا وفقرا عاطفيا أو يضاعفهما إن وجدا، وقد يتسبب هذا الخيال -وبعضه مريض- في أن يقتنع صاحبه أو صاحب الوهم أنه يحيا حياة سقيمة ومملة وجدباء. يبقى واضحا أننا نعيش عصرا تهيمن عليه ثقافة الشهرة والمشاهير، وهي ثقافة يعود الفضل في وجودها وقوّتها إلى غرائز أهمها في رأيي غريزة ممارسة النميمة. كانت هذه الغريزة واحدة من أهم غرائز إنسان العصر الحجري، وزادت أهميتها مع اكتشاف الإنترنت. كانت بندا مهما في قائمة اهتمامات الصحافة الورقية، فصارت ضرورة لا غنى عنها للصمود في وجه المنافسة مع الصحافة الإلكترونية. بل إن الاهتمام بالشهرة والمشاهير فاق عند بعض الناس حدود العقل وتجاوزها. رأينا هذا البعض، كما في رمضان الجاري، يقضي في سعيه نحو الشهرة والمشاهير وقتا أطول من الوقت الذي يقضيه عادة في العبادة والعمل والحياة العائلية. كثيرون يعتبرون الشخصية المشهورة قدوة لهم ولأولادهم يتشبهون بها وهم أبعد شبها. سمعنا أن معجبين يطلّقون زوجاتهم عندما يطلّق المشهور، ويتزوجون كلما تزوج، ويتزينون كما يتزين، ويريدون أن يعبثوا كما يعبث وهم غير مؤهلين. أما المشاهير فأكثرهم يبدو كأنه عقد العزم على أن يعرض نفسه في صور تناسب ما يدور في خيال الناس وتشعل أحلامهم، وبخاصة المريض منها. شاهدت على الشاشة في رمضان رجال دولة وثقافة وإعلام سلّموا خصوصياتهم وخصوصيات عائلاتهم وماضيهم لمقدمات ومقدمي برامج كمادّة للسخرية والاستهزاء، بعضهم عرّى نفسه وظهر في صورة على غير حقيقته، ربما أسوأ كثيرا مما كنا نعرف. هذا التفاعل الخبيث الذي يبثّ سمومه في البيوت سيساهم في تشكيل مكونات ثقافة الجيل القادم، ويعجّل بانحدار ثقافة الجيل القائم، وإن كان في الوقت نفسه يبرّر ضرورة التغيير وضخامته. في أزمنة أفضل كانت للشهرة والمشاهير جرائد مخصصة لحكايات النميمة وترديد الشائعات، بينما حرصت جرائد أخرى على التزامها المهني بالخبر، سواء تعلّق الخبر بمشهور أو مغمور، كان الخبر هو المعيار وليس الشخص. لا أمل يُرجى لارتقاء المهنة إذا تركت نفسها تنجرّ جرّا إلى مهنة صناعة المشاهير، بحجّة النزول على رغبة جمهور يريد إشباع غريزة هيمنت حتى استحكمت وهي النميمة، أو استجابة لإرادة سياسية تحاول تغييب عقول الناس وتسعى إلى إلهائهم عن المطالبة بحقوقهم وتحسين أحوالهم. نُشر بالشروق بتاريخ 2010/9/1