"قصة تبحث عن تعليق" باب جديد ينضم إلى الورشة.. سننشر فيه القصص بدون تعليق د. سيد البحراوي، وسننتظر منك أن تعلق برأيك على القصة.. وفي نهاية الأسبوع سننشر تعليقك بجوار د. سيد البحراوي؛ حتى يستفيد كاتب القصة من آراء المتخصصين والمتذوقين للقصة القصيرة على حد سواء.. في انتظارك. "حامل الأحزان" لحظتها شرع يغني رغم أن جسده كان يحتضر ؛ صوته كان من أعذب ما سمعت .. ثغره الدقيق يترنم باسماً فتختلج قسمات وجهه العجوز .. لحظات يتوقف فيها عن الشدو لينظر ناحيتي ؛ يبتسم .. ثم يعاود النظر الي السقف و يرتفع صوت غناه محلقاً بروحه الي العنان .. و حينما دنوت منه أكثر كي تمتلئ روحي بصوته ؛ لحظتها كان قد صمت .. الي الأبد . صغيرة هي قريتنا ؛ و قليلون هم أهلها .. كنت كل صباح أركض ناحية المرج لأتسلق التل الصغير _ الحبيب كذلك _ حتي أشبع عيناي بمشاهدة قريتنا من علٍ ؛ حينها كنت أبصر اللوحة البديعة التى أتقن الله نسجها واهباً إيانا الدليل الحي علي أن الجمال هدف سامي يستحق القتال من أجله ؛ لحظات لا يسود فيها سوي الخواء و صوت الكروان المحبب الي نفسي مقروناً بالصورة البديعة لتزاوج الخضرة و لون السماء .. يمر بعض الوقت ثم يبدأ الرجال الخروج من بيوتهم بحثاً عن الرزق .. الزوجات يخرجن تباعاً بوجوه باسمة متوردة الوجنتين حاملات أكياس من القماش يضعنها بجوار أبواب منازلهن ثم يعدن أدراجهن مرة أخري الي الداخل .. فى بادئ الأمر لم أكن أعر أمر تلك الأكياس اهتماماً ؛ لكن و مع تكرار الحدث بدأت تلح علي فكرة واحدة دفعني اليها فضولي النهم ؛ الإكتشاف . كانت أمي تقوم بالأمر ذاته ؛ لكنني و حين أشرع في سؤالها عن محتوي الكيس ؛ كانت تقول لي كلاماً لا أفهمه .. الغريب أنه و بمجرد أن تضع أمي الكيس جوار باب المنزل لا تمر دقائق إلا و يختفى هذا الكيس و كأنه لم يوجد من الأساس ؛ و يوم بعد يوم .. توقفت حياتي برمتها علي اكتشاف هذا الأمر .. حتي كان ذلك اليوم . في اللحظة التى بدأ فيها قرص الشمس يغتصب الظلام منجباً ضوءه الفتي ؛ كنت أركض خارج الدار متجها صوب التل الحبيب .. كانت رائحة النسيم تغزو صدري و صوت الكروان العذب يخترق روحي لدرجة شعرت معها أنني أستمع الي النسيم و أستنشق غناء الكروان .. جلت ببصري ناحية البيوت التي بدأت أبوابها تنفرج لخروج الرجال .. لحظات ثم تخرج النسوة و في أيديهن الأكياس الغامضة .. و ما أن يغلقن الأبواب وراءهن إلا و أطلق عنان ساقيَ في تحدٍ صارخ مع الريح متجهاً ناحية أحد تلك الأكياس .. مددت يديَ ناحية الرباط الذي يقيد عنق الكيس و ما أن هممت بجذبه حتي سمعته يقول من خلفي : _ لقد قتل الفضول القط حقاً .. ما بالك أيها الصبي ؛ هل تود حقاً أن تبصر ما يحويه الكيس ؟ . من شدة المفاجأة لم أقوي علي الرد ؛ التفت ناحية الصوت فوجدت رجلاً تغضنت ملامح وجهه بالتجاعيد لدرجة ظننت معها أنني لو سكبت نقطة ماء علي وجهه فإن النقطة سوف تشق طريقها عبر تلك التجاعيد خالقة في النهاية جدولاً من الماء ؛ كان متأنقاً .. رائحته كانت نفاذة عطرة ؛ نبرات صوته كانت هادئة تماماً .. و لمحت في يديه كيساً كبيراً يشبه تلك الأكياس الغامضة ؛ و حينما لاحظ نظرتي تجاه الكيس ؛ إبتسم .. و وضع يده علي كتفي و قال : _ تعالي معي إن كنت تود حقاً أن تعرف . سرت بجواره مأخوذاً دون أن أدري الي أين يقودني .. لكن خوفي مع الوقت بدأ يتسرب مني كما يتسرب عطره الأخاذ من جسده .. هل كان يطلق من فاه نغماً منتظماً وقتها ؟! .. نعم كان يفعل .. وقف أمام منزل صغير عند طرف قريتنا و فتح بابه و دلف ؛ فدخلت في إثره .. منزله على ما يبدو ؛ تركني و اتجه ناحية القبو و تسمرت أنا في مكاني اجول ببصري أنحاء المكان .. منزل بسيط جداً لدرجة الأناقة .. جدرانه يزينها ورق حائط هادئ الألوان .. بجانب المقعد الوثير الذي يتوسط تلك الغرفة أبصرت بعضاً من الألات الموسيقية الخفيفة ؛ عم الصمت لحظات ثم هتف من أسفل : _ تعالي يا بني .. سوف أريك الحقيقة . نزلت اليه .. فأبصرته واقفاً بجاور آلة غريبة الشكل تحتل جزءاً كبيراً من القبو ؛ أنزل الكيس من علي كتفه و أفرغه داخل تلك الآلة .. ثم التفت ناحيتي و قال مبتسماً : _ سوف أشرح لك يا بني .. ربما تكون أنت من اختارك القدر .. ربما . قال الرجل : _ لقد إختارنى القدر كي أكون حاملاً للأحزان .. لن أقول صانعاً للبهجة فللبهجة مصادر أخري خفية علينا نحن بني البشر .. وظيفتي القدرية هى أن أجوب أنحاء القرية مع أول ضوء للشمس أجمع فيها أحزان الناس التي تخترق حياتهم كل يوم ؛ كل صباح تشرع النسوة في جمع الأحزان المتناثرة في أرجاء الدار و يودعنها داخل ذاك الكيس الذي هممت أنت بالتعرف علي محتواه ؛ بعد ذلك يأتي دوري .. أنا من يحمل عنهم تلك الأحزان ؛ أعود بحملي الكبير كل يوم الي القبو و أفرغه في تلك الآله ؛ فتتلاشي أحزان أهل القرية و ربما تتحول الي بهجة كذلك . صمت لحظات ثم أردف : _ المشكلة أن أحزان الناس أصبحت أقوي من قدرتي علي الإحتمال .. هل حقاً تحورت الأحزان حتى باتت حملاً ثقيلاً ينوء عاتقي عن تحمله ؟! ؛ لا أعرف إن كانت تلك هي الحقيقة أم أنني قد شخت و ما عاد في استطاعتي تحمل ذاك العبء .. لذلك قلت أنه ربما يكون القدر قد اختارك أنت بالذات .. ربما . بعد ذلك شرعت أساعد الرجل في أعباءه . مع الضوء الأول للنهار نجتمع و نطوف سوياً أرجاء القرية.. لا نترك منزلاً إلا و نحمل عنه حصيلة أحزانه ؛ بعد ذلك نعرج الي القبو و نحول تلك الأحزان الي بهجة نتنسم رائحتها معاً .. من قال يوماً أن البهجة تخلو من رائحة ؟! .. كانت أياماً لن أنساها ما حييت ؛ في أوقات الراحة كنت أجالسه .. يقوم هو بالغناء و أنصت له أنا بكل جوارحي ؛ إقتربت من عالمه تماماً بل و صرت أحد مكونات ذلك العالم .. كنت سعيداً منطلقاً و بدوت و كأنني أود أن أحتضن العالم كله في صدري و أودعه أحد أركان روحي ؛ لكن نهاية كل ذلك جاءت أسرع مما توقعت .. بل و أقسي مما تخيلت . يومها تأخر علي غير عادته .. ذهبت اليه حيث وجدت باب داره مفتوحاً ؛ دلفت متجهاً صوب مضجعه مشتاقاً لرؤيته .. وجدته ممدداً علي الفراش يخيم علي وجهه لون أصفر عرفت فيه الموت . و حينما رآنى ..إبتسم ؛ و أشار لي أن أقترب منه . لحظتها شرع يغني رغم أن جسده كان يحتضر ؛ صوته كان من أعذب ما سمعت .. ثغره الدقيق يترنم باسماً فتختلج قسمات وجهه العجوز .. لحظات يتوقف فيها عن الشدو لينظر ناحيتي ؛ يبتسم .. ثم يعاود النظر الي السقف و يرتفع صوت غناه محلقاً بروحه الي العنان .. و حينما دنوت منه أكثر كي تمتلئ روحي بصوته ؛ لحظتها كان قد صمت .. الي الأبد . من حينها انشقت الأرض عن حاملاً جديداً للأحزان ؛ نعم كان صغيراً علي الأمر .. لكنه و كما قال له العجوز ؛ ربما يكون القدر قد اختاره هو بالذات كي يقوم بذلك . لقد كان الحامل الجديد هو .. أنا . مصطفى جمال هاشم
التعليق: نص جميل وعميق رغم أنه يفتقد الدراما التقليدية. أسلوب شيق وسلس (رغم بعض الأخطاء اللغوية) وحنكة في الحبك وعمق في الرؤية. أهلا بمصطفى في الورشة.
د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة