صيف عام 1967 كان صيفاً ساخناً بحق.. كنت قد تجاوزت سنتي الابتدائية الخامسة، وحصلت على درجات متوسطة كالمعتاد، لا هي بالمرتفعة، ولا هي بالمنخفضة، وعلى الرغم من هذا، لم يمتنع والدي –رحمه الله– عن إمدادنا بكل المجلات، التي كانت تصدر لأعمارنا، في تلك الفترة.. كنت -وما زلت- ولداً وحيداً لأسرة بسيطة، لها أربعة من الأبناء، أنا وثلاث بنات، مع ملاحظة أنني لم أضع (أنا) في البداية من باب النرجسية، وإنما من باب أنني الأكبر سناً فحسب، وكنا كلنا شديدي الشغف بالقراءة، فيما عدا شقيقتي الصغيرة؛ فقط لأنها كانت صغيرة جداً؛ إذ تصغرني بثمان سنوات وبضعة أشهر، وعلى الرغم من أننا لم نكن –أيامها– أسرة ثرية، إلا أن بائع الصحف، الذي كان يدّق بابنا أيام زمان كان يحضر لنا مجلات (ميكي)، و(سمير)، و(سوبرمان)، و(المغامر)، و(بساط الريح)، وهي ما كان يصدر في ذلك الحين، وكانت (ميكي) –كما اتفقنا– ملكاً للبنات، و(سوبرمان) ملكاً لي، وهذا كان اتفاقاً شكلياً فقط، إذ كنا نقرأ كلنا كل المجلات، ودون أية ضوابط، ولكن عند تجليدها فقط، تحين لحظة تحديد الملكية؛ لأن الاسم كان يوضع على كعب المجلد.. وفي صيف 1967، كنت -على الرغم من سنوات عمري القليلة آنذاك– أتابع تلك التطوّرات السياسية، دون أن أستوعب معظمها، ولكنني كنت -كمعظم أو ككل سكان (مصر)- أجلس أمام التليفزيون، الذي كان حديث الولادة؛ لأتابع خطب الرئيس (جمال عبد الناصر)، التي كانت حامية كالصيف، وهو يهدد (إسرائيل) بإلقائها في البحر، ويطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من (سيناء)؛ لأن جيشنا يستعد لإلقائها في البحر.. كانت خطبه توحي أيامها بأن (فلسطين) ستتحرر في غضون ساعتين، لو تحرّك جيشنا فحسب، وكنا كلنا ممتلئين بالحماس على نحو غير طبيعي، حتى أنني شعرت أن القراءة لا تكفي وحدها، ولا بد من ممارسة أية رياضة بدنية، يمكنها إفراغ كل هذه الطاقة.. ولأنني كنت –وما زلت- لا أميل إلى الرياضات الجماعية، فقد اخترت السباحة، وخاصة أن فيها "بلبطة" كثيرة.. ولم يُضِع والدي يوماً واحداً، وبسرعة، وجدتني أجلس مع أشهر مدرب سباحة في (طنطا) –آنذاك- وكان –رحمه الله– في حجم أسطول بحري، بحيث كانت قفزته في حمام السباحة تكفي لإفراغ الحمام من نصف مياهه.. وبعد حديث قصير، أصبحت مشتركاً في حمام السباحة، ومعي قائمة بأشياء يستلزمها الأمر، لا بد من إحضارها، مثل المنشفة، وأدوات الاستحمام، والحقيبة الرياضية، وغيرها، خاصة وأنه -بفضل صداقته لأبي رحمه الله– ضم اسمي إلى فريق السباحة بالنادي، وحدد يوماً أبدأ فيه السباحة كعضو في الفريق.. ولقد كان كل شيء يسير على ما يرام، باستثناء مشكلة بسيطة.. أن بداية التدريب كانت صباح الخامس من يونيو عام 1967.. ولقد ارتديت ثوب الاستحمام، ووقفت مع الفريق عند حافة الحمام، وكنت أحْدَث الأفراد، وأكثرهم لهفة وفخراً؛ لأنهم أخرجوا السباحين العاديين، حتى يتدرب فريق السباحة.. وراح قلبي يخفق في قوة، في انتظار صفّارة المدّرب؛ لأقفز كعضو فريق لأوّل مرة، و.. وانطلقت الصفّارة.. ولكنها –للأسف– لم تكن صفّارة المدرّب.. كانت التي كنا نسمعها، في تدريبات الدفاع المدني.. في هذه المرة، لم تنطلق لتعلن التدريبات.. بل لتعلن الحرب.. وفي ثانية واحدة تكهرب الجو كله، وراح المدرّب ومسئولو النادي يهتفون بنا لنغادر المكان، ونختبئ في أماكن آمنة؛ لاحتمال حدوث غارة جوية إسرائيلية.. كنا كلنا ثقة في أن الطائرات الإسرائيلية، لو جرؤت على دخول مجالنا الجوي، فسنسقطها كالذباب، بعد خطب (عبد الناصر) الملتهبة، لذا فقد صدّقنا فوراً مدرب السباحة، عندما أخبرنا أن (إسرائيل) شنّت غارة على (مصر)، وأننا أسقطنا لها عشر طائرات، وهلّلنا، وصرخنا، وصفّقنا، وتهلّلت وجوهنا بفرحة القوة، ثم طلب منا المدرب أن نرتدي ثيابنا ونعود إلى منازلنا، حتى إشعار آخر.. وغادرت حمام السباحة، وفي داخلي شعوران متناقضان تماماً... الفرحة؛ لما أسقطناه من طائرات.. والحزن؛ لأنني لم أنعم بقفزة واحدة إلى حمام السباحة، وأنا عضو بالفريق.. وعندما عدت إلى منزلي، لم يكن والدي يشاركني تلك الفرحة.. كان شديد التوتر والقلق، وهو يتابع الإذاعات العالمية سراً؛ لأن "حركة يوليو" كانت قد أصدرت قراراً أحمق، يحّرم الاستماع إلى إذاعة (إسرائيل)، التي كانت تعلن البيانات العسكرية في انتظام مدهش، معلنة نصرها على كل الجبهات، في نفس الوقت، الذي تؤكّد فيه بياناتنا أننا نُسقط عشرات الطائرات، وندير معارك رهيبة على أرض (سيناء).. ولأوّل مرة في حياتي، أختلف مع أبي، الذي كان يميل إلى تصديق البيانات الإسرائيلية، التي تؤيدها إذاعات العالم أجمع، وكنت أنا شديد الحماس للبيانات المصرية، على نحو مبالغ.. وفي صباح التاسع من يونيو، كانت المانشيتات الرئيسية للصحف تؤكّد أننا ندير الحرب بكفاءة كبيرة، على أرض (سيناء)، ولكن الأغنيات الوطنية الحماسية كانت تتراجع، وتميل إلى الهدوء وحب (مصر)، وليس إلى إشعال حماسة الحرب في النفوس، وبث روح النضال في القلوب.. وعندما مالت الشمس للمغيب، كان (جمال عبد الناصر) يعلن الهزيمة، التي أطلق عليها اسم (النكسة)، ويعلن تنحيه عن مقعد الحكم.. انهارت والدتي، وبكت في حرارة، لم أشاهدها تبكي بمثلها أبداً، وأصيب والدي –رحمه الله– بوجوم غريب، فظل يحدّق في شاشة التلفاز كالمذهول، أما أنا وشقيقاتي، فقد تابعنا انفعال أمّنا، وبكينا مثلها.. ولم تمضِ ساعة واحدة، حتى كان شارعنا في (طنطا)، وهو أحد أهم الشوارع الرئيسية هناك، يموج بالهتافات والمظاهرات، التي تطالب (عبد الناصر) بالبقاء، وترفض قراره بالتنحي، في فورة تلقائية، وانفعالات طبيعية، يستحيل تنظيمها أو افتعالها، في ظل هذه الظروف.. وتوالت الأحداث بعدها في سرعة؛ لتزيد الصيف سخونة والتهاباً.. (عبد الناصر) تراجع عن التنحّي، مع المطالبة الشعبية.. (عبد الحكيم عامر) تمرّد، واعتصم في منزله في (أسطال).. مظاهرات تطالب بمحاكمة قادة الطيران.. الكل يتبادل الاتهامات، والخريطة السياسية تتغيّر، وفقاً للقاعدة التي تقول: "إن الهزيمة يتيمة.. والنصر له ألف أب".. والهزيمة كانت مُرة للغاية.. الجيش المصري تم سحقه سحقاً، على أرض (سيناء) دون أن يجد الفرصة ليحارب، وشباب (مصر) الأطهار أريقت دماؤهم على رمال (سيناء)، ودُفن العديدون منهم أحياء، في وحشية إسرائيلية لم نسمع عنها أيامها... وفجأة تم إعلان مصرع (عبد الحكيم عامر)، الرجل الثاني في (مصر)، والذي ما زال مصرعه متأرجحاً، بين الاغتيال والانتحار، حتى وقتنا هذا.. وتمّت محاكمة قادة الطيران.. وتم عزل مدير المخابرات العامة ومحاكمته.. وعندما بدأت الأمور تهدأ، مع بدايات عام 1968، كانت الخريطة السياسية في (مصر) قد تغيّرت، وكان الخطاب السياسي قد اتخذ سمات مختلفة تماماً، وكان (عبد الناصر)، على الرغم من الهزيمة، أكثر قوة وثقة، بعد تلك الانتفاضة الشعبية، التي رفضت تنحِّيه عن الحكم.. وبدأت (مصر) كلها مرحلة شديدة الأهمية من تاريخها.. مرحلة إعادة البناء.. وكالمعتاد، كانت هناك اتهامات وفضائح عديدة للمستبعدين، وعبارات جديدة ينادي بها الباقون، من أشهرها "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".. ولكن ما كان يهمني -في عمري هذا- هو أنني لم أعُد قادراً على ممارسة السباحة، بعد أن تم إغلاق حمامات السباحة، وإيقاف دوري كرة القدم، وكان عليّ أن أبحث عن وسيلة أخرى للتسلية، بخلاف القراءة.. وانتقلنا، (محمد العفيفي) وأنا، إلى مرحلة جديدة.. مرحلة الشطرنج.. وبغزارة..