أنا من جيل عاش كل حروب مصر مع إسرائيل.. من حرب 84 وكنت وقتها طفلا فى التاسعة من عمرى، وبيت والدى فى بنى سويف حيث كان يعمل نائبا لمأمور المركز.. وأحاديث الحرب تجمع الجيران وزملاء عمل والدى.. ولم أكن أدرك تماما حقيقة ما يحدث فى فلسطين أكثر من أنها معركة بين العسكر والحرامية الذين يحاولون سرقة الأرض.. وفى عدوان ,65. كنا قد انتقلنا إلى القاهرة لأدرس فى الجامعة، ومن شرفة بيتنا فى شبرا نرصد كشافات الأضواء التى تبحث عن طائرات العدو فى سماء القاهرة المظلمة مع نداءات إطفاء أنوار المنازل والشوارع وأصداء الأغانى الوطنية وخطب عبد الناصر التى تدعو لشرف القتال ويملؤنا الغضب والإصرار على رد هذا العدوان الهمجى على أراضينا، وتحول الشارع المصرى إلى كتلة من الحماس الثائر، وتوارت كل الاهتمامات الشخصية فى إعلان الانتماء والدفاع عن الوطن.. حتى جاءت حرب 76 وفجيعة الهزيمة.. وانكسار الروح.. وشيوع اليأس وإعلان عبدالناصر التنحى وخروج المظاهرات الشعبية الحاشدة تطالبه بالاستمرار.. وكان الرد العملى لعبدالناصر هو إعادة بناء القوات المسلحة وبداية حرب الاستنزاف والتى تكللت بانتصارنا فى حرب 37 بقيادة السادات. شريط طويل ملىء بالأحداث عندما أتذكره الآن أشعر وكأنى عشت ألف عام.. لم أشارك فى كل هذه الحروب إلا بسلاح القلم.. أكتب فى الصحافة وأكتب للإذاعة والتليفزيون، ولا أدعى البطولات.. ولكنى أفتخر أننى حافظت على نفسى وكرامتى وأعطيت كل جهدى وخبرتى للعمل الصحفى وشرف الكلمة ووقفت بجوار أجيال متلاحقة من شباب الصحفيين حتى أصبحوا ملء السمع والبصر.. وهذا أعظم ثروتى.. ليست بحسابات البنوك وإنما بحسابات الأهداف والمواقف والذكريات. ربما من أعز الذكريات الآن.. ونحن نحتفل هذه الأيام بأعياد انتصار أكتوبر.. ذكرى صداقتى بشاب جامعى توطدت علاقتى به من خلال ما كان يقرؤه لى.. ثم نلتقى ليناقشنى بجرأة ورغبة فى الفهم والاقتناع.. وقد جاءنى ذات مساء ليدعونى لحفل زفافه وقبل أن يمضى أخبرنى بسرعة وبلهجة واثقة.. أنه انضم لصفوف الفدائيين فى حرب الاستنزاف!! وتملكتنى الدهشة.. ما هو مستقبل شاب يعرف جيداً أنه بين ساعة وأخرى قد يفقد حياته.. وكيف تفكر عروسه فى مستقبل بيت وأسرة وهى تدرك تماما أن حبيبها وزوجها قد يخرج ذات مرة ولا يعود؟! طاردتنى هذه الأسئلة وأنا وسط هذا الفرح الصاخب بالدفوف والزغاريد.. وهو يجلس أمامى محتضنا بعينيه عروسه الجميلة الرقيقة فى حفل زفاف غير تقليدى.. لا تحكمه الملابس الرسمية ولا الوجوه المستعارة.. ضحك وهو يجلس بجوارى ويقول: »صدقنى أننى أستمتع بأية أغنية أو منظر حلو أكثر من أى إنسان عادى،والعمل الفدائى يعمق الإحساس بالإنسانية والجمال.. عندما أحببت هند زوجتى الآن لم نفكر أبدا فى الموت ولحظات الخطر كما تقول لماذا نعطل حياتنا خوفا من الموت.. الموت قد يأتى فى أية لحظة.. فلماذا لا نعيش حياتنا بالشكل الأفضل.. منذ شهور طويلة كنت طالبا فى ليسانس الآداب كما تعلم.. وما لا تعلمه أننى كنت أمارس نوعا من الترف.. عندما كانت أمى تطهو العدس كنت أهرب من البيت إلى أى مطعم.. كنت أقف أمام المرآة وأتساءل يوميا.. أى قميص أرتديه وأى بنطلون؟! الآن تغير كل شىء فى معسكرات الفدائيين.. نأكل العدس.. نستحلب الزلط.. لا يهم.. حلقت ذقنى.. لم أحلقها.. أمر شديد التفاهة.. ننام على قطعة من القماش.. ننام على الرمال.. لا يهم.. المسألة ليست مظاهر وشهوات.. المسألة هى درجة الإحساس بكيانك ووجودك.. وإيمانك بأن هناك خطرا وعليك أن تتغلب عليه لتعيش فى كرامة. أيام لا تنسى.. أيام الكرامة والإحساس القوى بالانتماء والشموخ. هذا الصديق الفدائى علمت فيما بعد أنه استشهد فى إحدى المعارك العسكرية فى حرب الاستنزاف.. ولكن مازالت كلماته ترن فى أذنى حتى هذه اللحظة.. نموذج لجيل اعتنق هدفا ورسالة فى زمن لم يبق منه غير بعض الذكريات.. وبعض الحسرة