أتذكر منذ عدة سنوات وقبل أن يظهر اختراع "الدي جي" كنا نجتمع في حنّة العروس حسبما يتفق الأهل والخلان فوق السطوح، في الشارع، أو في غرفة مفرغة من أثاثها لِتَسَع الجميع.. في البداية تبدأ الأحاديث بالسلام والثرثرة حول أخبار العائلة ومن تزوّجت ومن تطلّقت ومن غضبت عند أهلها، وبعد قليل قد يُطالب شخص بزغرودة أو غنوة تحرّك الجلسة الراكدة.. كنا أطفالاً نلهو حولهم وتحمرّ وَجَنَاتنا حين يطلبون إحدانا للرقص. وتظلّ الجلسة على هذا الحال حتى تصل جدتي "أم سيد" كما يسميها الجميع؛ فتسأل عن الطبلة؛ فإن حضرت تأمر بتسخينها على "عين البوتجاز"، وإن لم تحضر فيجوز استخدام طبق غسيل أو ترابيزة أو أي شيء يصلح لصنع الرتم اللازم لأغنياتها المفضّلة، ليمتلأ فضاء المكان بالبهجة، وتبدأ النساء في ترك أحاديثهم ليكونوا كورالاً يردّد بذات اللحن ما تقوله الجدة. أتذكّر العديد من أغنيات جدتي إلى اليوم، وتحفظها هي عن ظهر قلب، والغريب أن جدتي تختار طبقة معيّنة من طبقات صوتها -لا تستخدمها في العادة- لتغنّي منها؛ وذلك دون أن تدرس "سولفيج" في معهد "الكونسرفتوار" ودون أن تعرف أي شيء عن السلّم الموسيقي؛ فيصدح صوتها منغماً كصوت الغجرية المحترفة التي رأيتها تغنّي بالمولد. جدتي تملك غنوة لكل مناسبة، وحدوتة لكل مساء، وعِقداً ليزيّن رقبتها حتى وهي في السبعين من عمرها. عندما زارتني صديقتي كانت مندهشة لأنها لا تتذكر اسمها وتسألها عنه كل خمس دقائق، ومع ذلك عندما أعطت والدتي كوماً من الملوخية الخضراء لجدتي لتتسلى بخرطه، انخرطت هي في نوبة غناء "يا خضيرة يا ملوخية.. يا خضيرة يا اكل الافندية.. يا ملوخية اما زرعناكِ.. بدمع العين روّيناكِ.. وجه الغالي وقطفها.. بإيديه البيضا محنيّة". جدتي التي تغنّي للملوخية، تغنّي لكل شيء؛ فهي تغنّي للفرح وللحزن، وللحب وللوجع، وللسماء وللفراخ التي كانت تُربّيها. وتغنّي للعوانس والطاسات؛ ولذلك عندما تأتيني إحدى صديقاتي، أطالب جدتي بأن تغنّي لها بعد أن أغمزها، فتبدأ في موالها الشهير "قعدت فوق السطوح ادعك الطاسة... كل البنات اتجوزوا وأنا قاعدة محتااااااااااااااااااااسة" وإيييييييه.. الله.. عظمة على عظمة يا ست؛ فيضحك جميعناً بلا توقف. تغنّي جدتي لتسخر منا أو لتشتمنا بشكل غير مباشر، تبصق على الزمن بابتسامتها، ولذلك لا أتذكر وجه جدتي عابساً، أتذكّره دائماً ضاحكاً ضحكة كبيرة، لن ترى جدتي تبكي أبداً، قد تراها ساهمة أو صامتة سارحة في خيالاتها. تفتخر دائماً أن جدي تزوّجها بعد أن رآها ترقص في فرح قريبتها، وتفتخر أكثر عندما تحكي لنا كيف كان يطلب منها أن ترقص له حتى بعد تجاوزهما معاً سن المعاش. لم تعرف جدتي الحجاب أو الخمار؛ ولكنها تمسّكت في شبابها بالمنديل" أبو أوية" وطرحتها السوداء التي بدونها تكون رأسها عريانة. لم تحفظ القرآن ولا تعرف الكثير عن الأنبياء والصحابة والتابعين؛ ولكنها تعرف أن "ربنا موجود"، وكل ما يقدّم لها "فضل ونعمة" فتُتمتم "ألف حمد وألف شكر ليك يا رب"، في الصباح ستسمعها تقول "يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم"، ومن وقت للآخر "يا الله يا وليّ الصابرين". لم يُعطها أحد ورقة من الجهتين ممتلئة عن آخرها بأذكار الصباح والمساء، ولم يوصِها شيخ طريقة بترديد أحد الأدعية خمسين ألف مرة، ولن يُهِمها عندما تستقبل القبلة، هل يجوز أن تصلّي وقدميها عارية أم ينبغي أن ترتدي جوارباً؟! لا أظنها أبداً قد سألت نفسها إن كان غناؤها حلالاً أم حراماً؛ فوجدت من يقول لها إنه حلال في حضرة النساء وحرام لو سمعه الرجال في الغرفة المجاورة؛ فيرد آخر بأنه حرام خالص لأنه يلهي عن ذكر الله. جدتي تغنّي كما تصلّي وتدعو الله من قلبها، تغني من أجل الحياة، من أجل البهجة والفرح. لذلك رغم النسيان، لا زالت تحمل أغنياتها في قلبها، وكلنا نحملها ونتذكّرها بالوراثة.