كانت مفاجأة لي وأنا أتصل بصديق إماراتي صبيجة يوم العيد لتهنئته أن يخبرني بأنه في القاهرة. ومبعث المفاجأة وجوده في القاهرة في ظل كل ما يقال عن الحالة الأمنية في مصر وعدم استقرار الأمور، وأن ذلك قد يدفع العرب إلى العزوف عن زيارتها في هذه الفترة. كان صوت الرجل هادئا ودودا مرحبا كعادته لدرجة أخجلتني أن أسأله عن سبب ما قد يعتبره البعض مجازفة ، وهو وجوده في القاهرة، لكنني تذكرت عشقه المعروف بين كل المصريين الذي يعرفونه لكل ما هو مصري واغتنامه كل فرصة تسنح له لقضاء ولو ساعات في مصر. في صبيحة أول عيد بعد الثورة، استبشرت بأن هذا الصديق موجود في القاهرة وأن عادته لم تتبدل ، لكني خشيت أن يكون ذلك استثناء وأن يحمل بقية اليوم أخبارا لا تسر. في نهاية اليوم هاتفت صديقا مصريا يعمل في السعودية ويقضي العيد في مصر، وكانت المفاجأة الثانية حين وجدته بين عدد من أصدقاء طفولتنا وصوته يبعث على الانشراح. لم يترك لي صديقي فرصة لأسأل وبادرني بالقول إنه ، على غير العادة، يشعر بسعادة غامرة غير مسبوقة لقضائه العيد في مصر . استبشرت أكثر، لكني لم أتخل عن خشيتي من شيء يعكر الصفو كأن ترقص دينا على باب” شارع الهرم”فتشتعل نار التحرش ويضرب الفلول ضربتهم في غيبة الحاج منصور العيسوي ورجاله، أو في ظل حيادهم الذي يتجلى أمام مكان محاكمة مبارك حين يضرب أهل الشهداء. بعدها رحت أتنقل بين الفضائيات ، فإذا ب “الجزيرة مباشر مصر” تعيد بث وقائع صلاة العيد في ميدان التحرير. كانت الوجوه المتحلقة حول المذيع تفيض بالفرحة وفي الخلفية وجوه أخرى من كل الأعمار تمضي حاملة الأعلام وسجادات الصلاة. تسابقت الكلمات في وصف بهجة العيد بغير مبارك ولم يوقفها ذلك الرجل الملتحي الذي حاول سرقة الكاميرا وضرب كرسي في كلوبات “الجزيرة” متهما القناة بأنها صوت العلمانيين وأعداء الأمة. أتم الرجل رسالته من غير أن يقاطعه المذيع الذي وجد نفسه في ورطة على الهواء وهممت أنا بالتحول إلى قناة أخرى، غير أن رسالة أهم ظهرت على الشاشة ووصلتني ببشائر مكالمتي مع الصديقين الإماراتي والمصري. مرت على الشاشة مجموعة من الصم أدت بين الجموع صلاة العيد وإشارات أفرادها المبتهجة تترافق مع ابتساماتهم التي تداعب الكاميرا. خطف المشهد البليغ المذيع وبدأ في وصفه ، غير أن أفكاري قادتني إلى مكان ليس ببعيد عن ميدان التحرير لتضعني في مفارقة تاريخية تخرج لسانها للرئيس المخلوع والذين أدمنوا نفاقه حد الفجور. وجدتني أتذكر اللافتة التي زرعها أحدهم في السيدة زينب قبل سنوات زاعما أن الأجنة في قلوب أمهاتهم والموتى في قبورهم يقولون نعم لمبارك. وكان مشهد الصم المارين في الميدان ردا مفحما للمخلوع وفلوله الذين حولوا بعض برامج رمضان إلى ميدان مصطفى محمود جديد ، ورسالة موجزة تغني عن كل كلام، لأنها تقول بكل بساطة: صمت الصم يرقص فرحا برحيلك ويقول: مصر اليوم في عيد.