فى بدايات القرن العشرين انتشرت الملاهى الليلية والكباريهات والبارات بالقاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات. تم فتح هذه الأماكن فى الأساس من أجل تسلية جنود الاحتلال، ثم انتفع بها واستفاد منها طبقة التجار الموسرين ومُلاّك الأراضى والحيازات الزراعية بالريف الذين كان الواحد منهم يبيع محصول القطن ثم يشد الرحال إلى القاهرة ليسهر فى صالات حى روض الفرج وكباريهات شارع عماد الدين حتى تفنى نقوده. كان الغناء فى تلك الفترة شديد البدائية والرثاثة يخاطب الغرائز الدنيا للمستمعين الذين كانوا فى غالبيتهم محدودى الوعى والتعليم، وكانت الأغانى مصحوبة دائما بالرقص الذى كانت تمارسه المغنية نفسها أو بمصاحبة راقصة سمينة! ومن أمثلة أغنيات تلك الفترة واحدة تقول كلماتها: «على دول يا امّه يا امّه على دول.. كحيلة وأسمر وما تلوم يا خىّ»، وأغنية أخرى تقول: «اللى باحبه ده دلعه يجنن.. يضرب بيانو كمان ويدندن»، وثالثة مطلعها: «يا منعنشانا يا بتاعة اللوز.. بدى ألاعبك فرد وجوز»، وأغنية: «ارخى الستارة اللى ف ريحنا.. أحسن جيراننا تجرحنا»، وأغنية: «اوعى تكلمنى بابا جاىّ ورايا.. يا خد باله منى ويزعل ويايا»، وأغنية: «يا سمبتيك خالص يا مهندم.. اسمح وزورنى الليلة يا افندم»، فضلا عن الأغنية التى مطلعها: «الخلاعة والدلاعة مذهبى.. من زمان أهوى صفاها والنبى»! ومن الغريب أن الأخيرة هى لسيدة الغناء العربى أم كلثوم التى خضعت لأحكام ذلك الزمان وشاركت فى الغناء المسفّ! وقد أمكن للتراث السينمائى الذى عكس الحياة بهذه الفترة أن يحفظ جانبا من هذه الأغانى وينقلها لنا كثلاثية نجيب محفوظ التى أخرجها للسينما حسن الإمام وقدمت الحياة فى القاهرة فى أوائل القرن العشرين ووصفت دنيا الليل التى كان يحياها التجار والأعيان وسط العوالم والمغنيات. غير أن الأغنية التى اكتسحت ما عداها فى تلك الفترة وكانت أيقونة الكباريهات هى أغنية «لا والنبى يا عبده»، التى حققت شهرة مدوّية حتى إن عشرات المطربات قد تغنين بها وتبارين فى إظهار الرقاعة اللا متناهية فى أداء الأغنية. تقول الست المطربة وهى تتمايل: «لا والنبى يا عبده».. وتأخذ فى تكرار الجملة أكثر من مرة فلا نفهم ماذا تقصد بالتحديد، وعلامَ تعترض بالضبط فى سلوك الأخ عبده.. هل كان يضربها مثلا وهى ترجوه أن يكفّ؟ هل كان يتحرش بها وهى تستعطفه ليتوقف؟ لا ندرى. ثم تكمل الست غنوتها فنفاجأ بها تمتدح عبده قائلة: «سوق الحلاوة جَبَر.. وانت مافيش منك يا عبده». من هنا نفهم أنها ليست غاضبة منه بشكل حقيقى وإنما هى تتدلل بهدف إغرائه، ويتضح هذا خصوصا حين تقول: «طلعت فوق السطوح أنده على طيرى يا عبده».. وهى دعوة واضحة ليتبعها عبده فوق السطوح. ثم تطمئنه بأن أحدا لا يستطيع لومه لو اتجه نحوها بكلّيته فتنشد قائلة: «الرِجل تدب يا عبده.. مطرح ما تحب.. يا عبده»، ثم لا تلبث أن تبثه حبها وهيامها قائلة فى لوعة: «القلب داب والنبى.. ومافيش وصال منك يا عبده». غير أن الجزء الصادم فى الأغنية هو ما فاجأتنا به الست المطربة دون أن تقصد فى الكوبليه الذى يقول: «بينى وبينك كلام.. وايش وصّله لأمك يا عبده؟». هنا نفهم منها طبيعة الأستاذ عبده الذى يتضح لنا أنه رجل خرونج، إذ بعد أن عاش قصة الحب بكل مفرداتها مع المحبوبة، إذا به بكل نذالة يثبت أنه عيّل وتافه وابن امه، عندما يحكى للوالدة عن كل شىء ويفضح الحبيبة التى تعجز عن فعل شىء إلا أن تعاتبه فى الغنوة على ما فعل.. تعاتبه وهى ترقص وتهز أردافها السمينة ولا تتوقف أبدا عن مناشدته فى غموض.. تلك المناشدة التى نفهم منها أنها تريد المزيد مما يفعل عبده.. أيا كان هذا الذى يفعله!