كنت أتعجب كثيرا من هؤلاء الذين يقومون بوضع أكواد فكّ الشفرة على الإنترنت لفتح قنوات تليفزيونية مشفّرة. كنا في نهايات القرن العشرين، عصر انتشار الباقات التليفزيونية المشفّرة عبر الأقمار الصناعية. ومعها انتشرت كروت يتم شحنها بهذه المعلومات ثم إدخالها في أجهزة استقبال القنوات الفضائية لكسر شفرة إغلاق هذه القنوات لغير المشتركين في هذه الباقات. وكانت هذه الباقات تغيّر من أكواد الشفرة كل فترة وجيزة ولكن هؤلاء الذين ينشرون مجانا معلومات لفكها كانوا يستمرون في منح العالم هذه البيانات، وكلما عقّدت هذه الباقات من شفرتها وسرعة معدل تغييرها، كلما ارتفع مستوى من يفك هذه الشفرات. واستمر الجمهور المصري يتمتع بمشاهدة هذه القنوات مجانا بفضل هؤلاء الأبرار. وسبب تعجبي هو في عدم استفادة هؤلاء من هذا الجهد الذي يبذلونه ويصرون على الاستمرار في القيام به. وازداد عجبي مع تتبعي خلال العقد الماضي عشرات الجهود المجانية الرامية إلى تقديم خدمات اجتماعية شديدة الأهمية، وقد شاهدت تنامي الخدمات التطوعية في العالم أجمع، وزيادة عدد المدونات التي يكتبها أصحابها يوميا لمشاركة خبراتهم مع الغير حتى وصل عدد المدونات عام 2009 إلى 126 مليون مدونة فاعلة، وظهور موسوعة ويكيبيديا المجانية التي يكتبها قراؤها، وانتشار الفيس بوك المجاني الذي يحتفل هذه الأيام برقم نصف مليار عضو، واليوتيوب الذي سجّل متوسط مليار مشاهدة يومية لملفات الفيديو خلال عام 2009، وظهور التويتر المجاني للخدمات الإعلامية والفليكر المجاني الذي يحفظ اليوم نحو 4 مليارات صورة فوتوغرافية للمشتركين، وغيرها الكثير من الخدمات على الإنترنت. ولكن زال عجبي عندما فهمت. أولا: هناك اليوم تريليون (أي ألف بليون) ساعة في السنة من الزمن الفائض. وهو الزمن خارج ساعات العمل والنوم والغذاء وممارسة المهام العائلية بالإضافة إلى الزمن الذي يخدم هذه الأزمنة كالوقت الذي نقضيه في المواصلات على سبيل المثال أو الوقت الذي نقضيه من أجل إتمام مهام إدارية... إلخ. فمع التطورات التقنية والصناعية والتجارية والمعلوماتية أصبح لدينا تريليون ساعة يمكن أن يمنحها إنسان اليوم لإنتاج قيم عامة متاحة للجميع. ثانيا: أن الإنسان يولد وثقافة الكرم مطبوعة في جيناته الوراثية، فثقافة العطاء والمنح هي ثقافة أصيلة لدى الإنسان. ثالثا: أن نتشارك مع غيرنا فيما ننتجه من أفكار ومن منتجات هو أمر أساسي في نظامنا العقلي. وهو الأمر الذي يميز الإنسان عن غيره من الكائنات. فهو ليس حيوانا ناطقا أو عاقلا، ولكنه حيوان قادر على إقامة علاقات جنسية بين أفكاره وأفكار جماعات أخرى بعيدة عنه، كما هو قادر على إيجاد أفكار مبتكرة ناتجة عن هذا التزاوج بين هذه الأفكار. رابعا: ظهور وانتشار اقتصاد المجان. فكما كتب "كريس أندرسون" -رئيس تحرير مجلة "وايرد" ومؤلف الكتاب المهم: "الذيل الطويل" الصادر عام 2006- في مقاله "مجانا" أن اقتصادات المجان سوف ترسم المستقبل الاقتصادي للعالم. لم يتساءل "أندرسون" هل سوف تتحول جميع المنتجات الثقافية والتقنية والترفيهية كالموسيقى والكتاب والأفلام السينمائية والتليفزيونية والألعاب والبرامج... إلخ من المنتجات إلى بضاعة مجانية؟ ولكن كان سؤاله متى سوف تقدم هذه المنتجات مجانا إلى مستهلكها؟ وأعود إلى مقولة "دين كيمن": ثقافة المجان تحصل على ما تحتفي به. وسوف يبقى السؤال مطروحا على مستقبل الاقتصاد العالمي: من يدفع ماذا؟ وتجيب جوجل اليوم أن المعلن هو من يدفع ثمن تقديم الخدمة بالمجان للكافة. هناك إذن ثروة كبيرة من الزمن الفائض مع بشر يتميزون بالكرم ولديهم القدرة والرغبة على أن يتشاركوا مع الغير فيما ينتجونه داخل أطر اقتصادية جديدة تتشكل اليوم داخل ثقافة المجان. بشر يمتلكون دوافع اجتماعية وإنسانية لإنتاج ما يحبون وليس ما يدفعون له. نحن أمام عصر جديد سوف يكون سؤاله الرئيسي: ما العمل لإدارة الزمن الفائض للحصول على أعلى عائد اجتماعي ممكن؟ عن الشروق 25 يوليو 2010