عندما تجد نفسك هدفًا لصفعات خصومك، لك الحق أن توجّه غضبك عليهم، وأن تراهم معتدين وتسعى لردعهم ولوقف إيذائهم. ولكن أليست البداية الأكثر واقعية هي أن تغضب على نفسك؛ لأنك أنت من توفّرت عندك أسباب تشجيعهم على فعل ذلك بك؟! وأن تبحث عن الحل عندك لا عندهم؟ وبداية الحل.. أن نضع أيدينا على مواطن العلل: الجذع الأجوف لو أنك تريد تحطيم جذع شجرة شديد الصلابة والسُمك، فما هي أفضل طريقة لتحقيق ذلك؟ مهما كانت قوة بلطتك ومنشارك فلا شيء أقوى من أن تمتلك ما يمكنه التوصّل لقلب هذا الجذع وإفراغه من محتواه أو العبث بما بداخله؛ بحيث يتحوّل جذع الشجرة القوي إلى مجرد قشرة خارجية خادعة تنتظر أول هبة رياح متوسّطة القوة لتحويلها لشظايا متطايرة مثيرة للشفقة. هذا بالضبط ما يحاول الإسلاموفوبيك -ومن يستغلون الإسلاموفوبيا- فعله بالمجتمعات المسلمة، سواء كانت مجتمعات مسلمة بالأصل أو مجرد جاليات مغتربة أو أقليات من المواطنين بدول غير مسلمة. فهم -الإسلاموفوبيك- يسعون لتقويض المحتوى الداخلي لتلك المجتمعات؛ بحيث تصبح صالحة للتشكيل وفق رؤيتهم أو قابلة للانهيار عند أول اختبار حقيقي. فالتيارات الغربية الاستعمارية -الساعية لفرض "عولمتها" ورؤيتها الخاصة للعالم أحادي النمط والثقافة- تدرك أن المحتوى الحضاري الإسلامي شديد القوة بحُكم تنوّع عناصره وعمق مكوّناته. ولأن المستعمر يتعلّم من تاريخ أسلافه، فقد تعلّم تجّار الإسلاموفوبيا من التجربة الصليبية في الشرق، عندما جاءت الحملات الأوروبية بجيوشها وجحافلها وأجندتها لتغيير الشرق وتحويله لقطعة أرض كاثوليكية أوروبية وأقامت إماراتها في الشام، لتفاجأ بعد سنوات -ليست بالكثيرة في عمر الزمن- بأن المستعمرين المُفتَرَض بهم القيام بالتغيير هم من تغيّروا وتأثّروا بالثقافة العربية الإسلامية، حتى أن الأديب والسياسي "أسامة بن منقذ" -الذي عاصر الوجود الصليبي في الشرق- قد تحدّث عن أن بعض الصليبيين يفخر بأنه لا يشرب الخمر ولا يأكل الميتة ولا الدم ولا لحم الخنزير! وكذلك جرى للمغول الذين انتصروا على المسلمين في الشرق فقط ليدخلوا بعد ذلك في الإسلام، ويذوبوا في كيانه، ويعملوا على نشره في الهند وأفغانستان وروسيا رغم أن القضاء على ذلك الإسلام كان في أولوليات مخططاتهم. ثمة حقيقة تاريخية واقعية إذن تقول إن الإسلام -ككيان ديني وثقافي- يمكنه إذا توافرت له أسباب القوة أن يمتص حتى المعتدي المنتصر عسكريًا على المجتمع الإسلامي! إذن فالمطلوب من الراغب في استعمار المجتمعات الإسلامية ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا أن يوجّه أقوى ضرباته للمحتوى الإنساني للإسلام حتى لا ينقلب السحر على الساحر. المشكلة المثيرة للضيق أن معظم المتعاونين مع ذلك المخطط الموجّه ضد الإسلام هم بالفعل من أبناء المجتمعات الإسلامية، سواء من المندفعين للسباحة في تيار التغريب المفرط المتجاهل لحقيقة أن ليس كل شيء يصلح لكل مجتمع، أو من المتطرفين الذين يلعبون دور فتيل الفتنة الوطنية والطائفية التي يستغلها الإسلاموفوبيك كدليل اتهام للإسلام بأنه دين مدمر للأمن الاجتماعي، أو من المتعاملين مع المحتويات الحضارية والدينية للإسلام باعتبارها "أموراً تدعم الرجعية وتعود بنا للخلف 1400 عام"، والمؤلم أن أغلب هؤلاء يؤمنون بأفكارهم تلك لحد التطرّف والاندفاع مما ينذر يومًا ما بكارثة صدام داخلي عنيف كفيل بتدمير كل شيء، نشهد حاليًا نُذُره. ألا يكون لنا "كبير" المثل الشعبي يقول: "من ليس له كبير يشتري له كبيرًا". ومشكلة المسلمين في العالم أن ليس لهم كبار تتفق عليهم الأمة يتحدّثون باسم المسلمين ويردّون عنهم ويُمثّلونهم في المحافل الدولية. لدينا علماء كبار ومفكرون عظماء، ولكن ليست لدينا تنظيمات فاعلة تدير شئوننا الدينية وتفصل بين نزاعات مذاهبنا وتياراتنا وتتوحد خلفها صفوفنا، فالأزهر -منارة الإسلام سابقًا- مؤمَم مُسَيّس والثقة الشعبية به مهتزة بشدة، والمؤسسة الدينية السعودية التي تحاول الظهور بمظهر حصن الإسلام الأخير محجمة لصالح مصالح النظام السعودي الحاكم، ومنظمة المؤتمر الإسلامي لا تملك أدوات الضغط السياسي لصون حق الإسلام والمسلمين في مواجهة الاعتداءات والافتراءات، وهيئات علماء المسلمين -مع احترامي- مجرد جهات استشارية تقدّم التوصيات، ولكن قراراتها لا تملك القوة الملزمة باحترامها.. صحيح أن الإسلام ليس به "مجلس كهنوت" أو "رجال دين"، ولكني أتحدّث هنا عن "التنظيم والتنسيق والتوحيد للمواقف الإسلامية"، أتحدّث عن جهة محترمة تتولّى هي البحث والفتوى والفصل بين النزاعات الإسلامية -المادية والمعنوية- والتعامل مع الإساءات الخارجية للإسلام ورموزه، وتكون مسئولة عن إعطاء هذا العالم أو ذاك حق الإفتاء أو منعه منه، تمامًا كما تفعل أية نقابة درجة عاشرة تحترم نفسها في أية دولة منسية بالعالم الثالث! هل هذا كثير؟ أليس هذا مما يرحمنا من فوضى الفتاوى و"المتاجرين" بالدين هنا وهناك؟ إن أناسًا يشوّهون الإسلام والمسلمين -مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري- لم يكونوا ليحققوا أجندة المستفيدين من ذلك لو كان للمسلمين هيئة فتوى جماعية تضم علماء كافة المذاهب، وتُخرِج الفتوى الفاصلة في مسألة الجهاد. وفتاوى مستفزة كفتوى إهدار دم "ميكي ماوس" ما كانت لتجد لها صداها المُبالَغ في أمره لو كانت للمشتغلين بالفتوى رابطة علمية منظمة تملك أدوات معاقبة من يتصدى للفتوى بغير علم أو يخالف قواعدها ونظمها، سواء كان العقاب معنويًا أو مرتبطًا بالتشريعات الجنائية للدول الإسلامية، أسوة لما يحدث مع أصحاب المهن الطبية والهندسية والتجارية وغيرها. المشكلة أن المؤسسات الدينية فَقَدَت استقلاليتها، فأصبح العلماء مقيّدين، بعكس ما كانت عليه قديمًا عندما كان فقهاء المسلمين أكثر فاعلية وإيجابية فيما يخص قضايا الأمة، ودعونا لا ننسى دور هؤلاء الفقهاء في التصدّي للتحديات الخطرة للأمة؛ فأبو حامد الغزالي لعب دورًا كبيرًا في الرد على فرقة "الحشاشين" المارقة عن الإسلام، والفقيه "الهروي" أطلق نداء الجهاد من بغداد ضد الصليبيين بعد اقتحامهم القدس، والعز بن عبد السلام شارك في إشعال جذوة المقاومة ضد الخطر المغولي وعضد جهود المماليك لأجل ذلك، وتقي الدين بن تيمية كان في مقدّمة جيوش مصر المملوكية المدافعة عن الشام ضد عدوان أمراء المغول الذين كانوا قد أسلموا ولكنهم لم يفقدوا طبيعتهم الهمجية المدمّرة. ولا ننسى دور علماء الأزهر في مقاومة الحملة الفرنسية، ثم بعد ذلك في خلع الولاة الأتراك الطغاة وتنصيب محمد علي باشا -مؤسس مصر الحديثة- على رأس الدولة، وحتى دورهم الإيجابي خلال ثورة 1919 وحفاظهم على وحدة الصف المصري ودفاعهم مع إخوانهم المسيحيين عن الوحدة الوطنية. أين ذهب كل هذا؟ إن غياب هذه الهيئات العملاقة يترك حبل المسلمين على الغارب، ويجعل كتلتهم البشرية ممزقة صالحة للاستخدام من قِبَل أعداء الإسلام ضده، فبدلاً من أن تكون قوة بشرية فاعلة تضيف الجديد للحضارة الإنسانية، وتجعل العالم يشعر بقيمتها ويجد نفسه مجبرًا على معاملتها كندٍّ له، على العكس يسهل مهمة الإسلاموفوبيك ويجعل لافتراءاتهم مصداقية كبيرة. هناك حالة انفصال تام بين الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية والمؤسسات الدينية فيما ينبغي أن يكون فيه ارتباط -كوحدة الموقف السياسي- وفي المقابل توجد حالة تبعية مفرطة من كبريات تلك المؤسسات فيما ينبغي أن يكون فيه انفصال واستقلالية، كحرية المؤسسة الدينية في اختيار قياداتها وتنظيم شئونها! وهذا مما يزيد الطين بلة ويجعل عمل تلك المؤسسات معطلاً وطاقاتها مهدرة. ولكن هذه التيارات لن تترك الإسلام وشأنه الخيبة يثير غيظي تهليلنا الطويل؛ لأن فلانًا أو علانًا من رموز السياسة والثقافة في الغرب مدح الإسلام. صحيح أن شهادة الحق تستحق التحية، ولكن ماذا بعد؟ لماذا لا يُحسن استغلال تلك التيارات الإيجابية لخلق لوبي إسلامي قوي في الخارج أُسوة بذلك اليهودي والآخر اليميني المسيحي؟ ما قيمة وجود تجمعات بشرية إسلامية ضخمة في الغرب لو لم يلعب أفرادها -بالذات المتجنسين بجنسيات مهجرهم-دورًا إيجابيًا موحدًا في خدمة المصالح المشروعة للمسلمين في أن يُحتَرَموا كأصحاب دين معترف به، وأن يكون لهم مكان مقبول على ساحة العمل الحضاري بمختلف مجالاته؟ إننا عندما نكون أهل دين أثبت رقيّه على مدى 1400 سنة، وحضارة أخذت موقعها المتميز على مدى 800 سنة، وأصحاب كتلة عددية تزيد على المليار وتنتشر في مختلف بقاع الأرض، ومعنا تيار غربي محايد يحترم ديننا ويُقدّره، ثم بعد ذلك نجلس ونندب حالنا ونشكو العالم الظالم الذي يفتري علينا ولا يفهمنا، ونهرول هنا وهناك في مذلة لنستجدي الآخرين أن يحسنوا الظن بنا... فهذا هو الوصف الدقيق الكامل لتعبير "الخيبة الثقيلة"! الخلاصة الإسلاموفوبيا محض افتراء، ومجرد مرض نفسي وفكري، ولكن دعونا نعترف بحقيقية مؤلمة هي أننا إن بقينا على حالنا هذا عبئًا على الجنس البشري، ولم نأخذ من الإسلام سوى الفخر به دون أن نُفكّر ولو مرة واحدة في أن نجعله هو من يفخر بنا. إن الرجل الغربي البسيط حين ينظر إلى الرجل المسلم البسيط فيجده شخصية سلبية، يأكل ويشرب وينام ويعيش بلا هدف ولا طموح، ويقاد كما يقاد الغنم في القطيع ثم يتفاخر بإسلامه، فبالتأكيد سيقرر هذا الغربي أن ثمة علاقة سببية بين الإسلام وذلك الوضع المهين.. وهنا سيتحوّل الإسلاموفوبيا إلى حقيقة لها أسانيدها المنطقية! ولن يمكن لأي منا أن يقول إنها مرض نفسي أو وهم أو افتراء من بعض أصحاب المصالح! (تم) مصادر المعلومات: 1- الإسلام في عيون غربية: د. محمد عمارة. 2- فقهاء الشام في مواجهة الغزو الصليبي: د. جمال محمد سالم عريكيز. 3- المسلمون وأوروبا: د. قاسم عبده قاسم. 4- عصر التشهير بالعرب والمسلمين: د. جلال أمين. 5- التنوير الزائف: د. جلال أمين. 6- تزييف الوعي: فهمي هويدي. 7- المفترون: فهمي هويدي. 8- الخطر الإسلامي خرافة أم حقيقة: جون ل. إسبوزيتو. 9- ماهية الحروب الصليبية: د. قاسم عبده قاسم. 10- كتاب الاعتبار: أسامة بن منقذ. 11- الاستيطان الصليبي في فلسطين: يوشع براور. 12- الدولة العثمانية: د. محمد سهيل طقوش. 13- الحروب الصليبية كما رآها العرب: أمين معلوف. 14- الحشيشية: برنارد لويس. 15- البداية والنهاية: ابن كثير. 16- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغري بردي. 17- القرآن والسلطان: فهمي هويدي. 18- مسلمون ثوار: د. محمد عمارة. واقرأ أيضاً إسلاموفوبيا: نقطة.. ومن أول السطر أن يكون الدفاع عن الإسلام إهانة له! إسلاموفوبيا: الإسلام.. العدو الجديد للبشرية! خطر اسمه "الدولة الإسلامية"