في الجزء القديم من قسم الرجال بمستشفى العباسية توجد مساحات فسيحة بين العنابر على شكل مستطيلات ومربعات مفتوحة، واضح أنها كانت حدائق يتريض فيها النُزلاء، لكن تقلّبات الزمان وإهمال العهود قضى على عشب وزهور هذه الحدائق؛ فتحولت إلى أحواش تُرابية وإن ظلت بها أشجار وارفة سامقة يزيد عمر معظمها على المائة عام، وفي ظل واحدة من هذه الأشجار اتخذتُ لي مكتباً تحت السماء العارية. وقد كنت أحد طبيبين مسئولين عن قِسم المرضى المزمنين، ومعظم هؤلاء المرضى قضى في المستشفى أكثر من عشرة أعوام؛ بل كان هناك من سلخ فيها ربع قرن أو يزيد من عمره، وكثيرون منهم كانوا منقطعي الصلة تماماً بالعالم الخارجي؛ فقد مات أقاربهم أو نسوهم أو تناسوهم في زحام وبؤس أحوالهم، لأنهم غالباً فقراء أو أفقر من الفقر. ترابيزة متهالكة ومقعد خيزران عتيق كانا كل أثاث هذا المكتب في ظلّ الشجرة، وكنت قد غامرت بإيقاف كل الأدوية النفسية لمرضى هذا القِسم، باستثناء أدوية الطوارئ لحالات قليلة مُعرّضة للانهيار، وكان رأيي أن هؤلاء المرضى المزمنين قد استقرّت أوضاعهم على منظومة مُسالمة من الجنون، صارت فيها الضلالات والهلاوس بمثابة الصحبة الباقية لهؤلاء المرضى بين خرائب عالمهم الداخلي المتهدم والموحش. وقد لاحظت أن نوبات هياجهم تتفجر ليس بسبب العراك مع شخوص وكائنات هذه الهلاوس والضلالات؛ بل لافتقادهم إياها عندما يقتحمهم العالم الخارجي بزيارة أقارب جاءوا يحملون معهم هموم عالمهم البغيض، أو فظاظة مُمرضين هزمتهم الدنيا خارج العباسية، وجاءوا ينتصرون على ضعف وبؤس المرضى داخل الأسوار. قدّرت أنّ أجسام هؤلاء المرضى لا بد صارت مقاومة لأي تأثير دوائي لما اعتادوا تلقّيه من الأدوية النفسية عبر سنوات طويلة، وكانوا مُعدَمين ومُستنفَدين وبلا حيلة ومقطوعين؛ فكل ما يلزمهم فيما تبقى لهم من دنيا، هو مجرّد الملجأ والملاذ واللقمة والهدمة، وأن يُترَكوا في سلام مع أطياف هواجسهم وهلاوسهم. أدهشتني كثيراً النتيجة؛ فلم أر سلاماً بشرياً كالسلام الذي لفّ هؤلاء المرضى المتآلفين مع العالم الداخلي الذي ابتكره جنونهم، والذين كنت أجلس لساعات طويلة أراقبهم وهم يهيمون به بين الأشجار وفي الفناء، يتقاربون متحادثين في وداعة بما يبدو حواراً متبادلاً في موضوع مشترك مهم؛ بينما الحقيقة أن حوارهم لم يكن فيه أي تبادل؛ فكل منهم كان يُرسل مونولوج هذيانه وتهيؤاته على مسمع من زميله دون أن يكون أحدهم مُصغياً للآخر أو ينتظر منه الإصغاء. أما قمة تأثري بتأمّل سلامهم البائس؛ فكانت حال انهماكهم في عمل شيء مشترك، شيء بسيط، وليس له أي معنى بمقاييس عالم الكبار العاديين، كعمل حفرة يدفنون فيها بعض أوراق الشجر الجاف المتساقط، على اعتبار أن هذه الأوراق ميتة، ويتوجب دفنها! انهماك شديد، مضحك ومؤسي، كانوا يستغرقون فيه مهرولين بأقدامهم العارية، في بيجاماتهم الكالحة الكميشة مقطوعة الأزرار على الأغلب، والمحسورة عن أرساغهم الجافة وبطونهم الضامرة وصدورهم العظمية؛ هذا يُحضِر خشبة بِطول الإصبع يحفر بها. وهذا يملأ يديه بحفنة من ورق الشجر ويمضي بها حريصاً كأنه يحمل جثامين مقدّسة أو جواهر ثمينة؛ ذاك يُنَحِّي تراب الحَفْر القليل ويسوّيه ويعيد تسويته في كومة صغيرة، ويصدرون وهم يروحون ويجيئون الأوامر لبعضهم البعض في همهمة وخفوت، ولا يتصادمون في انهماكهم كأنهم يرون دروبهم بالغريزة لا بعيونهم الواسعة شاردة النظرات التي صارت أوضح ما بقى لهم من ملامح الإنسان والجنون. يتحركون كقبيلة نمل جاد يُخزِّن مؤناً، أو حشد بشري يبني جسراً أو يحفر قناة.. الانهماك نفسه الذي ظلّ يذكّرني بلمّة أطفال يلهون على شاطئ البحر مُشكِّلين بالرمل حيواناً ضخماً أو مُشيِّدين بيتاً كبيراً من الرمال! لكن أطفال العباسية الذين كنت أحرس سلام جنونهم آنذاك، كان معظمهم كهولاً ضامرين، وبعضهم على مشارف أنقاض الشيخوخة. خيط مُتشابه يجمع في تصوري بين مخيلة الطفولة وأخيلة الجنون، ويمكن أن نراه عند الأطفال المستغرقين في "اللعب"، وعند المجانين المنهمكين في "الشُغل"، ولعله يكون مبعث تعاطفنا مع الأطفال، وشفقتنا على المجانين؛ فكل ما يُنجزونه هو أشياء لا قيمة ولا اقعية لها، أشياء لا تستحق هذا الانهماك وذاك الاستغراق؛ لكنهم يتعاملون معها بجدّية كأنهم يُنجزون مشاريع تاريخية؛ فهي لا تسلّيهم فقط؛ بل تمنحهم تعويضاً نفسياً يملئون به فجوة شعورهم بعدم اكتمال وجودهم، الأطفال في تطلّعهم للنمو، والمجانين في نمائهم المبتور أوالمُجهَض. والآن، عندما أرى هذا الانهماك وذاك الاستغراق المفتعل في "لعبة" الانتخابات، من الحزب الذي طُبِخت له كل الشروط الإجرائية والمقومات الأمنية؛ بحيث لا ينافس إلا نفسه، أو أوهام نفسه، والله ينتابني -كما ينتاب كثيرين- شعور بالاستغراب والضحك المرّ؛ لأن كل هذه التنقّلات بين المحافظات، والمؤتمرات التي تُرهق الناس، والاجتماعات الموهومة بالأهمية، واللقاءات التي توحي بالخطورة، ما هي إلا عبث يمُجُّه الواقع المصري المأزوم، ولا تصدّقه الغالبية العظمى من المصريين؛ بل يضحك عليه "في عِبّه" الكثير من أصحاب المصالح والمنافع المنخرطين في هذه اللعبة؛ بل المسرحية الفجة التي يتقمّص فيها دور البطولة مُتأستذ بلا موهبة وُيخرِجها مُتهندِس غريب الأطوار. لافتات تملأ سماء الشوارع، واحتشاد في قاعات مكيفة أو خانقة، انفعال مُبالَغ فيه، وإعلانات تلفزيونية تدعو للسخرية، وتحذير من غرامات يدفعها من لا يذهب للإدلاء بصوته؛ بينما الشعب المصري منصرف عن هذا العرض المكرر السقيم كله؛ فالدنيا الواقعية في مصر الآن، والناس في بلادنا في هذه اللحظة المنحدرة، هذا الوطن كله، حُكم ومُعارضة، أو ما يبدو معارضة، كلنا في أزمة، أزمة لن يحلها انهماك الولدنة في صناعة قلاع الرمال على الرمال، ولا استغراق المجانين في دفن موتى ورق الشجر الميت أو حتى إحيائه! أزمة لن يستطيع الخروج فائزاً فيها حزب منفرد أو حكم محتكر للسلطة، أزمة عميقة وليس إلا ولداً أو مجنوناً من يزعم أنه يستطيع القفز عليها بامتلاك ديكورات العمل النيابي وميكروفونات وشاشات وصفحات الإعلام المُنافِق، حتى لو امتلك هذا الحزب كل كراسي الحكم وهراوات الأمن وسجون الطوارئ؛ لأنه بفوزه المصطنع في هذه الانتخابات الخرقاء لن يعتلي إلا برميل بارود من صنع يديه ونفايات خطاياه! بارود أزمة مصرية لا تُخفي إلّا على عميان البصر والبصائر، وهي باستفحالها وتعقيدها وتشعبها الذي وصلت إليه لم تعد قابلة للترميم ولا التزوير ولا التجاهل ولا الإرجاء ولا جنون العظمة أو لعب العيال، وبالتأكيد لم تعد تحتمل ثقل الوجوه القديمة والدوران الممل في سواقيها الناشفة. إنها أزمة تاريخية لوطن في خطرٍ قائم، وأخطار قادمة مرئية بوضوح، أزمة أكل وشرب وصحة وتعليم ومأوى وأرض وطاقة وزراعة وصناعة وتمزّق اجتماعي وتعصُّب مشحون وفساد فاجر؛ بينما الكتلة السُّكّانية الهائلة محشورة في زحام خانق ودائخة في الحاضر وضائعة في المستقبل وأحوالها تبعث على الحسرة وتُنذر بالخطر. أزمة تتطلب حكمة عقول حقيقية وبشر أسوياء، في منظومة إنقاذ وطني جامع وتَوافُق واسع بين كل الفُرَقَاء للصالح العام، ولأجل الجميع، أما الهزل الذي يتقمّص الجدية تحت مظلة الاستنفار الأمني والكذب الرسمي؛ فهو خطر لا شك فيه على المستقبل، المستقبل القريب، والقريب جداً، والذي لو أعملنا المخيّلة نراه لا يتجاوز عمر أي مجلس شعب أو شورى أو تشكيل وزاري أو فترة رئاسية قادمة. فما من حكم على وجه الأرض يستطيع الاستمرار بالتلاعب والقوة وحدهما؛ لأن التلاعب صار مفضوحاً، والقوة باتت عبئاً لا يمكن ضمان احتماله من أدوات القوة نفسها، والتي صارت تتحمل بالفعل أكثر مما تطيق، وأكثر مما يمكن أن تقتنع به طويلاً، ولصالح سياسات رعناء ومصالح مغموسة بالفساد. لا ينبغي أن يفرح الحزب الوطني بما حصد وما سيحصد بالطريقة التي يعرفها ونعرفها جميعاً؛ بل عليه وعلى الحكم أن يخافا بالفعل ويفكرا بطريقة مختلفة، إن استطاعا؛ فهذا الانصراف الكاسح من الشعب المصري عن انتخاباتهم، ودون تحريض من أية معارضة؛ بل ضد رغبة قطاع من المعارضة زجّ بنفسه في هذه الانتخابات. هذه اللامبالاة الشعبية هي سَحْب صامت لشرعية الحزب والحكم، وشكل بدائي لعصيان مدني تلقائي، وتلقائيته أخطر ما فيه؛ لأنها تصرخ بأن الإحباط صار سيد الموقف، وإحباط الشعوب لا ينبغي أن يُريح أحداً؛ لأنه أرض ملغومة، وألغامها يمكن أن تفجّرها رعونة عبث الصغار، وثِقَلِ دهْس الكبار، ولن يفوز فيها حتى طيبو النوايا، ما داموا يسيرون بغير خرائط! لقد كنت أُردّد أثناء عملي طبيباً في مستشفى العباسية، أن الجنون الحقيقي ليس داخل المستشفى، بل خارج أسوارها. وها هو هذا الجنون يحتل قلب العاصمة ويركب القمم! فهل من رشاد؟ عن الشروق بتاريخ 10 يونيو 2010