"أبويا ناسب بسخاروس.. واسم خالي جرجيوس.. وجد أمي فلتاؤوس.. وأنا اسمي طه أبو العلا". (بيرم التونسي) الرأس القبطي "الناشف"! إذا سألني أحدكم عن أكثر ما يعجبني في الأقباط (وأنا هنا أعني المصريين كلهم لا المسيحيين فحسب) سأجيب فورًا: "دماغهم الناشفة", وصلابتهم في مواجهة الضغوط, وقدرتهم العبقرية على التحايل على جبروت المتجبر عليهم. و"نشفان" الدماغ هنا لا أعني به العناد الأعمى, بل أقصد ذلك العناد الذكي المبني على إيمان حقيقي بعدالة القضية. هذا الرأس الصلب هو صاحب الفضل في صمود المصريين عبر تاريخهم الطويل أمام كل الرزايا والضربات والصدمات التي كان بعضها كفيلاً بهدم جبل ضخم. فلننظر نظرة بسيطة في التاريخ القبطي, مجرد نظرة سريعة بسيطة.. سنرى أمامنا الإمبراطورية الرومانية, بجيوشها وفيالقها وجنرالاتها وسيوفها وجبروتها, في مواجهة الفلاحين المصريين الذين لا سلاح لهم سوى أدوات زراعتهم البسيطة وإيمانهم المسيحي العميق. لو أن أي محلل عسكري أو سياسي طُلِبَ منه أن يتوقع نتيجة المواجهة فسيقول فورًا إن النتيجة المنطقية هي فَناء المصريين على يد الرومان, كما حدث لأغلب من تحدَّوا النسر الروماني, هذا إن كلّف نفسه عناء الإجابة عن سؤالك الذي قد يبدو له غبيًا بحكم بساطة المعادلة. والآن, دعني أخبرك بأن روما بكل "هيلمانها" اندحرت أمام قوة الإيمان المصري بالمعتقد, بل وأن المسيحية المضطهدة المستضعفة أصبحت فيما بعد الدين الرسمي للرومان.. ماذا إذن سيكون تفسيرك لهذه المعجزة؟ إن بعض الأحداث لا يمكن تفسيرها بالماديات, والطبيعي أن مصر التي شكّلَت المعنويات والروحانيات جزءًا ضخمًا من تكوينها عبر التاريخ, لا ينبغي تحليلها بشكل مادي فحسب. لاحظ أننا نتحدث عن شعب جعل معابده وقبوره وبيوت آلهته من الحجر الصلب, بينما لم يهتم أن تكون قصوره وبيوته مبنية بغير الطوب اللبِن, وأننا لو كنا نفخر بأن لدينا ثلثي آثار العالم "المادية" فإن لنا أن نفخر أكثر بأن أجدادنا المصريين القدماء هم واضعو البذرة الأولى لأغلب المكونات المعنوية للتراث الإنساني. وعودة لمسألة "الدماغ الناشفة" هذه, فالقبطي حادّ الذكاء الذي وجد أن مقاييس القوة المادية تنذر بهزيمته في المعركة أمام القوة المسلحة الباطشة للمستعمر الروماني, استنفَرَ قدراته العقلية لمواجهة التحدي، ووجد أن الانتصار في الحرب لن يأتي فقط بالاستعداد للاستشهاد في سبيل الهدف, بل إن جزءًا كبيرًا من النصر يجب أن يقوم على المقاومة والاستبسال؛ لأجل الاستمرار في الحياة بالعند في محاولات الرومان سحقه. فابتكر نظام "الرهبانية" وخرج إلى الصحراء ودروبها المعقّدة, وكهوف الجبال الشاهقة, وأقام هناك أديرته وكنائسه وتعبّد لله وهو ينظر للنسر الروماني, وعلى شفتيه -أعني القبطي- بسمة ساخرة تتحدى الرومان أن يجتازوا الصحراء, فهو يعلم أنهم لا يطيقون حرها ووعورتها, بينما هو يستقوي على مصاعبها بإيمانه, ويطمئن لعدم غدرها به, ففي النهاية, لو كان يعيش سابقًا في موضع الصدر من أمه مصر -وادي النيل- فهو الآن قد انتقل إلى كتفها -الصحراء- وكلها في النهاية أجزاء من أمه الرؤوم. القبطي خرج إلى الصحراء ليقيم أديرته وعلى شفتيه بسمة ساخرة تتحدى الرومان وعندما اعتنق الرومان المسيحية, وصارت مصر تابعة للقسم الشرقي من الإمبراطورية (بيزنطة) وحاولت السلطات فرض المذهب البيزنطي على المصريين أصرّ هؤلاء على التمسك بكنيستهم القبطية وآبائها المصريين, ورغم عقد البيزنطيين مجمعًا تلو الآخر لتكفير الكنيسة المصرية لم يتخلَّ الأقباط عن ولائهم لكنيستهم, وعبثًا حاول الروم إرسال بطاركة موالين لهم, فكانوا يقابَلون إما بالطرد أو بالقتل أو بالتجاهل, واعتبر الأقباط أنفسهم رعايا الكنيسة لا رعايا الإمبراطور, فصارت الدولة الرومانية ملزَمة عند التفاهم معهم أن تتحدث مع البطريرك القبطي باعتباره ممثلاً للإرادة المصرية. والمثير للتأمل أن العرب حين دخلوا مصر فقد كان ممثل الموقف القبطي هو البطريرك المُختار "بنيامين", بينما كان "قيرس" (المقوقس أو المقوقز نسبة لأصله القوقازي) هو ممثل الموقف البيزنطي, رغم أنه كان رسميًا -وبأوامر الإمبراطور هرقل- بطريرك الكنيسة المصرية, ولم يتمكن من الوصول لصلح جدي مع العرب إلا بانفصاله عن صف الروم وانضمامه للموقف المصري الذي فرض نفسه بقوة! ذلك العناد والتحايل على الصعاب, لو نظرنا اليوم لحياة المصري البسيط الذي تحولت أبسط مظاهر حياته اليومية التقليدية لمغامرة غير مأمونة العواقب، فسنجده يتحايل ويدور حول الصعاب, ويتغلب عليها أحيانًا, وأحيانًا يُخفِق, فيعود للمحاولة من طريق آخر حتى يحقق ما يريد بحق، لو أننا حاولنا حساب نسبة مئوية لمحاولات المواطن المصري العادي للتغلب على الظروف خلال يومه الطبيعي لتأكد لنا بالدليل القاطع أن العناد هو المحرك الأساسي لهذا الإنسان! نعم، فبحق الله، أن يستطيع شعب الحياة والتناسل والاستمرار في ظروف صعبة من تلوث كارثي وفقر منتشر وأمراض مميتة متوطنة، بدون وجود أية آليات مادية تُذكر تعين على ذلك البقاء، وأن يستمر ذلك الشعب في إخراج المبدعين والمفكرين ومن يضيفون باسمه للمحتوى الحضاري الإنساني، لهو شيء أسطوري مُعجِز يؤكد وجود واستمرار عملية توارث "جينات" العناد المصري سالف الذكر، وهذا مما يؤكد لي أن الموروث القبطي في داخل كل منا أعمق من مجرد "ملامح" قبطية تشبه اللوحات القبطية القديمة لدى البعض، أو عقيدة مسيحية أرثوذكسية تدين بها نسبة من المصريين، أو أصول صعيدية فرعونية الجذور للبعض الآخر.. نعم، أنا أقول إن "صلابة الرأس"، والرغبة العنيدة للاستمرار في الحياة، تعتبر أهم المكونات القبطية فينا معشر المصريين. حضارة تحت الحصار لو نظرنا لتراثنا القومي لوجدنا أن نسبة ضخمة منه وُلِدَت من رَحِم أعتى الظروف وأسوأ الأوضاع. المقالات الساخرة ل"يعقوب صنوع"، رائد المقال السياسي الساخر.. أغنيات "الشيخ إمام".. وأشعار "أحمد فؤاد نجم".. العبقرية القانونية ل"عبد الرزاق السنهوري".. الإبداعات الفنية ل"محمود مختار".. المسرح السياسي في ستينيات القرن العشرين، والذي وُلِدَ على يد "تحية كاريوكا".. تحليلات "جلال أمين" و"فهمي هويدي".. أدب "جمال الغيطاني" و"بهاء طاهر"... كل تلك الثروات الحضارية نشأت إما تحت احتلال أو نظام بوليسي أو ظروف اقتصادية طاحنة.. فمن الجدّ الشرعي لتلك الإرادة المصرية للاستمرار في الإضافة الغزيرة للحضارة الإنسانية؟ التراث القبطي نشأ خلال فترة أعتى احتلال عرفته مصر في عصورها القديمة ولو بحثنا في الطريق الطويل للمصري لوجدنا نفس الظاهرة تتكرر خلال الفترة المسماة ب"الحقبة القبطية"، فالتراث القبطي بالكامل نشأ خلال فترة أعتى احتلال عرفته مصر في عصورها القديمة، وهو الاحتلال الروماني. فاللغة القبطية وُلِدَت في تلك الأيام ردعًا للّاتينية عن التسلل إلى لسان المصريين، والكتاب المقدس شهد أكبر حركة ترجمة وتحليل وتفسير وشرح رغم التهديد الدائم لكل من كرّسوا حياتهم لذلك بالقتل والصلب والإلقاء للوحوش في حلبات المصارعة. وأدب الوعظ وسِيَر الشهداء والقديسين وتاريخ الكنيسة، ظهرت تلك الآداب كأبناء شرعيين للأدب المصري الفرعوني الذي تضمّن من قبل نفس ألوان الكتابات في فترة ما قبل المسيحية. وظهرت المدارس والكتاتيب المتخصصة في تعليم المسيحية في القرى والمدن رغم أنف النسر الروماني. والفن المصري القديم تمخّض عن الفن القبطي في الصور والعمارة وأيقونات القديسين. حضارة كاملة قامت في قلب بلد كان محتلوه يجعلون أهله طبقات أدناها -بطبيعة الحال- أهل البلد الأصليون، وكانوا (أي المحتلين) يتفننون في جعل المصري يعيش كالثور المربوط في ساقية الفقر، يدور حول نفسه لينتزع لقمته وقوت عياله، بحيث لا يتركون له مجالاً للتفكير في علم ولا فن ولا تقدُّم، ويحوّلونه إلى مخلوق مشغول بهمومه الأولية من طعام وشراب وسكن، أو على حد وصف الشاعر "أسامة عبد الصبور" في قصيدة "المفرمة" "أعيش مسجون في سِجن الأكل عيش". تخيل تلك الإرادة التي نحتت الصخر وقارن بينها وبين من ذكرتهم من مبدعينا في العصر الحديث -وغيرهم كثيرون- وقل لي: ألا ترى التشابه؟ ألا يشبه الأبناء أجدادهم في قدرتهم على بناء حضارة ولو تحت الحصار العتيّ؟ مصر القبطية قبطية مصر ليست مجرد صفة "يرغب البعض في وجودها من اللاشيء" بل إنها "أمر واقع يفرض نفسه، له أسسه وآثاره الملموسة"، وهي لا تتعارض مع باقي مكونات هويّتها من إسلام وعروبة وغيرها من مكونات الهوية المصرية. بل إن من أهم آثار الصفة القبطية لمصر حسن استقبال المصريين للإسلام وتقبلهم له، فهم لم يقبلوه عن ضعف أو خَوَر -ولنا في موقفهم من الرومان والبيزنطيين عبرة- بل قبلوه عن احترام حقيقي، ورغبة في إضافته للمضمون المصري الذي يحسن استقبال الوافد عليه لو أن ذلك الوافد أبدى بدوره احترامًا ورغبة حقيقية في أن ينسجم مع أهل هذا البلد.. هنا، تفتح مصر ذراعيها، وتقدّم خبزها وملحها وماءها وظلها دون حساب.. فليس من العدل، ولا من الأخلاق، أن ننفي صفة من جئناه فأحسن تقبّلنا.. (يُتبع) مصادر المعلومات: 1- مسلمون وأقباط من المهد إلى المجد: د.جمال بدوي. 2- مصر القديمة في عيون حديثة: د.جمال بدوي. 3- المصريون والحضارة: د.حسين مؤنس. 4- الشرق الأدنى في العصرين الهيللينستي والروماني: د.أبو اليسر فرح. 5- تاريخ مصر في العصر البيزنطي: د.صبري أبو الخير سليم. 6- تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: د.عمر صابر عبد الجليل. 7- مصر في عصر الرومان: د.الحسين أحمد عبد الله. 8- مصر القبطية.. الأقباط يُعَمَّدون بالدم: محمود مدحت. 9- أسفار التكوين المصرية: مانيتون السمنودي. 10- المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية: المستشار/ طارق البشري. 11- دفاعًا عن تراثنا القبطي: بيومي قنديل. 12- شخصية مصر: د.جمال حمدان. اقرأ أيضاً: الاسم الكامل إنسان.. مقدمة لا بد منها (1)