رُسُل الحضارة اسمح لي أن أنقلك إلى زمن غير زمنك، وقوم غير قومك, وكينونة غير كينونتك.. أنت الآن ضابط روماني في إحدى الكتائب المرابطة في إحدى مستعمرات روما في الشرق الثري.. فليكن اسمك "ماركوس" أو "لوسيوس" أو "أركاديوس".. لا تهم الأسماء ها هنا.. أنت الآن تقضي إجازة قصيرة بين أسرتك, تنظر لبيتك في رضا تام. أطفالك يختلفون بالتأكيد عن الأطفال الذين تيتموا على يديك عندما أمرت بصلب أبيهم -في تلك المستعمرة الشرقية البعيدة- لأنه اعترض على تلك الضرائب الباهظة المفروضة عليه, أو لأنه أراد لنفسه ديناً غير دين الإمبراطور، أو لأنه استثقل استضافة موظفي الإمبراطورية المارين بقريته -كما يقضي القانون- لا يهم السبب، المهم أن أطفالك أكثر نظافة وصحة من تلك المخلوقات البائسة القذرة التي تركتها خلفك تبكي عائلها الوحيد، ذلك "المجرم" الذي وقف في طريق المهمة المقدسة لنشر المدنية الرومانية في كل العالم. بيتك بالتأكيد أكثر نظافة وجمالاً من كوخهم الحقير الذي لم يرُقْ لك تشويهه لجمال الطبيعة المحيطة به فقدّمت لها -الطبيعة- خدمة بأن حرقته عن آخره. وزوجتك -تلك الغالية التي تحسد نفسها على زوج برقّتك- أكثر جمالاً وبهاءً من أمهم التي قاومتك بضراوة بربرية ناكرة للجميل حين أردت أن تمنحها شرف تحسين نسلها الوضيع بوضع نطفة رومانية نقية في أحشائها. ولكن لماذا تعكر صفو الوقت الجميل بتذكر أولئك البرابرة الذين لا يقدّرون قيمة اليد البيضاء التي تمدها لهم؟ اشرب مزيداً من النبيذ اللذيذ.. وتناول قطعة اللحم من يد زوجتك الحبيبة إرضاءً لخاطرها، واستمتع بضحكات صغارك.. حتى تكتسب قوة معنوية حين تعود لمهمتك الإنسانية في نشر مزيد من العدالة الرومانية المطلقة في أرجاء الأرض. الغضب المقدس لم تعْقم أرجاء الأرض المختلفة عن رجال رفضوا أن تحمل كرامتهم ختم النسر الروماني. لم تأتهم روما ببشارة السلام والإخاء في الإنسانية، بل أتتهم بالعنصرية والعبودية والعدوان على العِرض والحياة والمال والآدمية! جاءت عولمة روما لتقسّم العالم إلى سادة رومان وما سواهم برابرة يقعون في المرتبة الأسفل من البشر والدرجة الأعلى من عالم الحيوان. نعم.. كان من الطبيعي أن يولد الغضب المقدس، وهل أقدس من غضب يولد من رحم الكرامة؟ في كل بقعة وُجِدَ فيها من أدركوا أن فكرة الرومان عن "الدولة العالمية الواحدة" و"السلام الشامل" هي فكرة تعتمد على قهر الكبرياء ودهس الإنسانية وطمس الهويات، قامت ثورة مادية أو معنوية وقودها الرغبة في البقاء. لم ينجح الرومان إذن إلا في خلق حالة من الغضب العالمي ضدهم، حتى عندما لاحت لهم فرصة لتوحيد العالم باعتناق أباطرتهم المسيحية -التي كانت قد انتشرت بشدة آنذاك- ومحاولتهم الظهور مظهر المدافعين عن دين الله، أخفقوا في ذلك بسبب سوء تعاملهم مع الخلافات المذهبية ومحاولاتهم المكشوفة لتوظيف الدين لصالح السياسة.. مما زاد من اشتعال حالة الثورة ضدهم وزاد من أسبابها ودوافعها. تلك الثورات التي أخمدها السيف لم تكن صيحة عابرة، بل كانت نداء الميلاد لسلسلة من الحركات المستنكرة لسيطرة روما على مقادير البشر في شرق الأرض وغربها. ولكنّ التجربتين الأكثر جدارة بالتأمل هما التجربة القبطية والتجربة العربية في الصمود أمام زحف العولمة الرومانية. فالنَصرُ قرارُ "قاوم! فيداكَ الإعصارُ.. وتقدّم! فالنَصرُ قرارُ.. إن حياتَكَ وَقفَةُ عِزٍ.. تتغَيَرُ فيها الأقدارُ!" (قصيدة "يا أيها الكبار" - هنري زغيب) أجل.. فالنصر قرار عندما يُدرك الفلاح المصري أن خير أرضه صار لغيره فيتخذ القرار الصعب بهجر زراعتها ليحرم مغتصبها من خيراتها، في حركة جماعية شملت الغالبية العظمى من الفلاحين وأفسدت على الرومان مكاسبهم من نهب خير مصر.. عندما يتَّحد جهد رجال الدين الأقباط على مقاومة غزو اللغة اللاتينية لبلادهم فيبتكرون اللغة القبطية ويقودون واحدة من أضخم حركات ترجمة كتب ومخطوطات العلوم والآداب واللاهوت إلى لغتهم الوليدة.. ويؤسسون المدارس المتخصصة في الحفاظ على التراث المصري الأصيل. فالنصر قرارُ عندما يتحدّى الأقباط الاضطهاد الروماني للمسيحية بأن يؤسس الأبوان باخوم وأنطون حركات الرهبنة الفردية والجماعية في الصحراء بعيداً عن بطش الرومان.. فيتحدّى الرهبان آلام الوحدة ومخاطر البرية المجهولة في سبيل حماية حريتهم العقائدية.. وعندها -بعد أن اعتنق الرومان المسيحية- يحاول الأباطرة فرض مذهبهم الرسمي على مصر فيتمسك أبناؤها بمذهبهم الوطني ويتصدون بقوة لأعتى الضغوط المادية والمعنوية.. حتى يضطر المحتل لاستخدام القوة -حيلة العاجز- فلا تجديه نفعاً.. فالنصر قرار.. ملحمة رائعة أبطالها مجرد أناس بسطاء أبناء شعب مسالم، استطاعوا أن يجعلوا جهود أقوى دولة في العالم -آنذاك- تذهب أدراج الرياح، فقط لأنهم قرروا ألا ينهزموا.
هذه كانت التجربة المصرية في الصمود أمام رياح العولمة الظالمة، أما تجربة أبناء أختهم هاجر -العرب- فلم تكن أقل إثارة للتأمل.. أبناء الصحراء لم تكن لديهم الحمامات الرخامية الأنيقة، لم يبنوا المعابد الضخمة ولا ساحات المصارعة، لم يعرفوا المسارح ولا نظام الانتخابات، كانت حياتهم هي البساطة بعينها. ولكنهم كانوا أحراراً.. المدهش أن الذين وقعوا تحت سيطرة الدول الكبرى من العرب كانوا ممن أسسوا المدن الكبرى وبنوا القصور وعرفوا الترف.. فاليمن سيطر عليه الأحباش ثم الفُرس، وفي الشام وضع الروم وصايتهم على الغساسنة الذين حكموا أجزاءً من الشام نيابة عن الإمبراطور البيزنطي، بينما بقي عرب الصحراء في مأمن من الوقوع تحت سطوة النظام العالمي الروماني، ثم البيزنطي بعد ذلك. كان الحجاز -وهو اسم مشتق من "الحجز"- اسم على مسمّى للأرض العربية الواسعة التي حجزتها الجبال والصحاري المميتة عما حولها، فكانت تلك نقطة قوة لأهلها الذين تمسّكوا بنمط حياتهم ولم يفعلوا كما فعل أبناء عمومتهم الغساسنة الذين هرولوا للانضواء تحت جناح السادة الروم ليتيهوا فخراً على العرب ب"تحضرهم" و"تطورهم" عن حياة البداوة الخشنة، بل على العكس، كان العربي يعتز بنمط حياته ويبحث عن سُبُل تطويره من داخل مجتمعه بما يتناسب مع احتياجاته دون زيادة أو نقصان. كان الروم ينظرون لأولئك العرب على أنهم مجرد رعاة أغنام أجلاف، بينما كان العرب يضربون عرض الحائط بتلك النظرة، ويتمسكون بأن يبقوا "هُم" على كينونتهم، على تفردهم وحفاظهم على طبيعتهم. لم تكن لديهم عقدة الإحساس بالدونية التي تدفعهم للتحوّل لصورة ممسوخة من الآخرين. صحيح أنهم كانوا يسعوْن للتقرب من قياصرة الروم وولاتهم، ولكن فقط في حدود ما يلزم لحماية وتنمية تجارتهم المشتركة. وعندما انتشرت المسيحية بين العرب، لم يسمحوا لذلك بأن يكون ذريعة لأن يوضعوا تحت وصاية الروم باعتبار هؤلاء الأخارى كانوا يروّجون لفكرة أنهم رعاة المسيحيين في العالم. وعندما حاول أحد نصارى مكة "عثمان بن الحويرث" أن يجعل من نفسه والياً على مكة من قِبَل قيصر بعد أن زار القسطنطينية وحصل على مباركة هذا الأخير، كان أهله وبنو عمومته هم أول من تصدّى له وخذله قائلين باستنكار: "معشر العرب.. أملك بتهامة؟". كانت مقاومة العرب إذن متمثلة في تمسكهم العتيد بأصالتهم، واعتزازهم الشديد بأنفسهم، وبحثهم عن مفردات البقاء والتطوّر في داخل محيطهم دون أن يعني ذلك انفصالهم عن العالم أو انعزالهم عنه. وهي المعادلة التي حققت لهم البقاء أحرار طوال فترة سيطرة الرومان ثم البيزنطيين على أغلب العالم القديم. نهاية حتمية.. وبداية وشيكة قتل الرومان إذن عولمتهم بخنجر الطغيان الذي أوغر صدور الأمم عليهم.. وبينما كان الرومان الشرقيون -ورثة الإمبراطورية- يتيهون بقوتهم.. كانت قصة جديدة للعولمة تولد في مكان آخر.. في المدينة -يثرب سابقًا- عندما خرجت الجيوش نحو بلاد الشام وفارس والعراق تحت راية الدولة الإسلامية الجديدة.. (يتبع) مصادر المعلومات: 1- البداية والنهاية: ابن كثير. 2- تاريخ ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون. 3- مصر القبطية: محمود مدحت. 4- الأنباط.. الولاية العربية الرومانية: جلين وارين بورسوك. 5- المثل السياسية: دليل بيرنز. 6- اختلال العالم: أمين معلوف. 7- An encyclopedia of world history:William L. LANGER 8- جزيرة العرب قبل الإسلام: برهان الدين دلّو. 9- حسن المحاضرة في ملوك مصر والقاهرة: جلال الدين السيوطي. 10- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان. 11- العالم البيزنطي: ج.م.هسي. 12- مصر في عصر الرومان: د.الحسين أحمد عبد الله. 13- تاريخ مصر في العصر البيزنطي: د.صبري أبو الخير سليم. 14- الشرق الأدنى في العصرين الهللينستي والروماني: د.أبو اليسر فرح. 15- تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: د.عمر صابر عبد الجليل. 16- التاريخ الوسيط: نورمان ف. كانتور. 17- العولمة: د.جلال أمين. 18- عولمة القهر: د.جلال أمين. 19- عصر الجماهير الغفيرة: د.جلال أمين. 20- عصر التشهير بالعرب والمسلمين: د.جلال أمين. 21- الإمبراطورية الأمريكية: محمد حسنين هيكل. 22- تاريخ قريش: د.حسين مؤنس. 23- موسوعة تاريخ العرب: عبد عون الروضان. 24- تاريخ العرب القديم: د.توفيق برّو. واقرأ أيضاً حرب العولمة.. أو أرمجدون الجديدة (1) حرب العولمة.. أو أرمجدون الجديدة (2) حرب العولمة (3).. المصريون طالما بجّلوا مستعمريهم حرب العولمة (4).. عندما استدعى المصريون مصاص الدماء الروماني