"قصة تبحث عن تعليق" باب جديد ينضم إلى الورشة.. سننشر فيه القصص بدون تعليق د. سيد البحراوي، وسننتظر منك أن تعلق برأيك على القصة.. وفي نهاية الأسبوع سننشر تعليقك بجوار د. سيد البحراوي؛ حتى يستفيد كاتب القصة من آراء المتخصصين والمتذوقين للقصة القصيرة على حد سواء.. في انتظارك.
"ما بين الهلال والصليب" قال حبيب عزيز: " لم يفعل معي شيئا ذا ريبة, ولكني لم أعد أشعر نحو (عبد الرحمن) سوى بالريبة ! والله يا جابر لم أعد أرتاح له إطلاقا!" كان حبيب عزيز يتحدث إلى (جابر أبو سريع) .. يعتز (حبيب عزيز) كثيرا باسمه ثنائيا! يرى أن له وقعا موسيقيا مميزا, لذا فكلما ينظر إلى اليافطة المعلقة فوق دكانه والمكتوب فيها بالخط العريض (مجوهرات حبيب عزيز) يدعو الرب بأن يتغمد أباه بالرحمة أن سماه (حبيبا), ذلك الاسم التجاري المتناسق بشدة مع (عزيز).
محل المجوهرات يقع في الثلث الأخير من ذلك الشارع الضيق في تلك المنطقة الشعبية التي تتميز بالكثافة السكانية العالية.. شارعٌ تجاريٌ هو, صوت آلات التنبيه الخاصة بالسيارات في هذا الشارع لا ينقطع! حتى أنك قد تظن أن الكلاكسات هي صوت الشارع نفسه لا صوت السيارات!! كان الوقت ظهرا, يجلس (حبيب) ومعه (جابر) بالداخل.. اعتاد حبيب على ألا يُدخل أحدا من أصدقائه أو معارفه داخل المحل, فهو لا يحب أن يتوجه بسهام الشكوك إلى أحد من معارفه إذا اكتشف فُقدان قطعة ذهبية ما.. لذا فعادة لا يجلس إلا منفردا.. بيد أن هناك صداقة من نوع خاص تجمع بين (حبيب) و (جابر).. لا تعلم أي قاسم مشترك جمعهما! فالديانة مختلفة.. والجيرة هي جيرة محلات فقط .. إلا أن جابر هو الوحيد الذي يثق فيه (حبيب) ويسمح له بالجلوس معه داخل المحل.. اسمه (جابر أبو سريع).. رجل خمسيني لم ينل من اسمه نصيب.. يتحرك بصعوبة وبطء نتيجةً لإصابته مبكرا بخشونة في المفاصل.. يمتلك محل بقالة يبعد عن محل المجوهرات بثلاثة محلات, ولكن في الصف المقابل.. عندما يبلغ به الملل مبلغه يترك الدكان لابنته المراهقة (سارة) ويذهب للجلوس مع (حبيب) يتناولان الشاي والمواضيع المختلفة, وسيَر الخلق! كان (جابر) يستمع إلى (حبيب) وهو ينظر إلى من يتحدثان عنه, (عبدالرحمن).. ذلك الشاب صاحب دكان العطارة الذي يقع في مواجهة محل المجوهرات تماما.. سأل: (وهل ضايقك في شيء)؟ رد حبيب: (قلت لك لم يفعل شيئا محددا معي, ولكن الأمر كما ترى الآن .. أطلق لحيته وقصر جلبابه وجعل من دكانه مقرا لأصدقائه الملتحين! لا تؤاخذني يا (جابر) .. لا أقصد شيئا ,ولكنك بالتأكيد تسمع عن أحداث السطو التي تحدث في تلك الآونة ضد محلات المجوهرات! أظنك تتفهم أسباب ريبتي !) أجابه (جابر) إجابة لا تعلم لها رأس من رجل! ففي البداية وضع لصداقته بحبيب اعتبارا, وأيد خوف صديقه وتفهم موقفه (معك حق والله! فلتجعل عينينك مفتوحتين!) .. ولكنه عاد فوضع اعتبارا لدينه وعقب (ولكن إطلاق عبدالرحمن للحيته لا يدل على شيء يا حبيب! الولد لم نر منه سوءا منذ ورث الدكان عن والده !) هنا يتبرأ حبيب من تهمة الهجوم على كل ذي لحية ويرد: (لا سمح الله يا جابر لا أقصد شيئا! ولكنك تعلم حماسة الشباب وسهولة تغيير أفكارهم! أخشى أن تتغير أفكاره كما تغير مظهره!) تغير المظهر الذي عنه تحدث حبيب كان يعني به إطلاق عبد الرحمن للحيته مؤخرا .. كان عبد الرحمن في البداية شابا عاديا .. يفتح دكانه على إذاعة القرآن الكريم كنوع من أنواع التبرك, وبعد ساعات يحول موجة الراديو إلى إذاعة نجوم إف إم .. يمازح الفتيات والنساء اللواتي يشترين منه, فأغلب تعاملاته أصلا مع الفتيات والنساء .. وكن يسترحن له لخفة دمه والتزامه حدود المعقول في مزاحه معهن.. منذ بضعة أشهر لاحظ حبيب أن عبد الرحمن تغير تدريجيا .. البداية كانت مع (مغلق للصلاة) التي كان يعلقها عبد الرحمن في أوقات الصلاة .. ثم بدأ في إطلاق لحيته.. ثم ارتدى الجلباب, ثم قصره .. بدأ يتعامل مع زبائنه من النساء بتحفظ أكثر.. ضايق هذا كثيرات واستثقلن دمه خاصة عندما لا يبادلهن المزحة بالمزحة والابتسامة بالضحكة كما كان يفعل سابقا, فامتنعن عن الشراء من عطارته.. قلةٌ منهن استمررن في الشراء منه, ولكنه لم يهتم! لأنه كان مهتما برفاقه الملتحين اللذين يجالسونه لفترات طوال! يذكر حبيب أن دكان العطارة كان فيه ذات مرة عشرة شباب بالداخل.. كلهم ملتحون, وغالبيتهم يراهم لأول مرة! ولقد خاف حبيب في هذا اليوم وظن أنهم يتفقون على خطة لسرقة دكانه.. فعدَّهم فردا فردا وحفظ أشكالهم ,وسهر في الدكان لليوم الثالي!! - (عين حارسا) اقترح جابر على حبيب, اقتراحا بعث الأسى على حبيب الذي أجاب: (الحال كما ترى يا جابرلم تعد تجارة الذهب كما كانت من قبل، السعر ارتفع والصيني أثر علينا كثيرا) دار هذا الحوار قبل أيام من تعرُّف حبيب على (حسين)! بإمكاننا اعتبار حسين هو (الطاقة) التي فجرت ما يكتمه (حبيب) تجاه (عبد الرحمن) من مشاعر توجس وريبة! بدأ الأمر عندما مر حسين على حبيب.. أخرج له بطاقة توضح أنه يعمل أمين شرطة, ومخبرا تابعا لجهاز أمن الدولة.. طلب منه أن إذا استراب في أي شخص يبيعه ذهبا فليتصل به على الفور, تحمس حبيب لهذا الطلب وأوضح أنه تحت أمر الداخلية .. سأله حسين إن كان يستريب في شخص ما؟ هنا حاول (حبيب) ضبط أعصابه عندما أفضى لحسين بكل ما يساوره من شكوك ضد عبد الرحمن حتى لا يبدو متحفزا ضده لمجرد التزامه.. أخبره عن التطورات التي طرأت على الشاب, أخبره عن الأصدقاء الذين يتعاقبون عليه, وأغلبهم لم يكن يراهم من قبل.. حدثه عن الساعات الطوال التي يمكثون يتحدثون فيها دون أن يعرف أحد عن أي شيء يتحدثون, صوتهم لا يتعدى آذانهم! حدثه عن كل هذا محاولا أن يبدو كلامه عاديا عابرا مرسلا.. حاول ألا يُظهر أي تعصب أو تحفز ضد عبد الرحمن ورفاقه.. ولكنه بعد انصراف حسين راجع كلامه الذي قاله مرةً أخرى وتشكك في أن يكون قد نجح في أن يخفي تحفزه! وبالطبع لم يكن حبيب بحاجة إلى أن يطلب منه حسين أن يأخذ حذره ويجعل عينيه أكثر اتساعا تجاه عبد الرحمن.. وإن كان قد اطمأن بعض الشيء عندما أخبره حسين أنهم سيهتمون بهذا الأمر ويحاولون الوقوف على طبيعة هذه الجلسات داخل محل العطارة.. وقد يدسون مخبرا بين عبد الرحمن ورفاقه إذا لزم الأمر.. تكررت زيارات حسين لحبيب.. كل مرة يسأله عما إذا جد جديد, فيخبره حبيب عن أوصاف الوجوه الجديدة التي ظهرت في محل العطارة, يخبره عن الوقت الذي يمكثه الزائرون مع عبد الرحمن.. في بعض الأحيان تتصادف زيارة حسين لحبيب مع زيارة الإخوة –كما يسميهم حسين- لعبد الرحمن .. فيراقبهم حسين باهتمام شديد, ويحاول أن يستشف من حركاتهم وسكناتهم المواضيع التي يتحدثون عنها.. ويوما بعد يوم يتضخم الشك بداخل صاحب محل المجوهرات والمخبر.. يستريح حبيب كثيرا لزيارات حسين له, فكان يطلب له الشاي دون استخسار, ويعزم عليه بالسجائر.. وفي بعض الأحيان يطلب له غداءا أو عشاءا بحسب وقت الزيارة.. ولكن في هذا اليوم الذي ملأه حبيب بصياحه لم يكن لحسين أن يطلب من حبيب شاي أو سيجارة.. لقد كان منفعلا بشدة حتى أنك تخاف عليه من الإصابة بنوبة قلبية أو ما شابه! كلمتان فقط هما اللتان استوليتا على لسان حبيب (أنا اتسرقت! أنا اتنهبت) الجموع التفت حول محل المجوهرات.. بصعوبة شديدة استنتجوا من صياح حبيب أن نصف محل المجوهرات قد سُرق .. الأقفال مكسورة .. و(الفتارين) شبه خاوية على عروشها! كانت محاولات تهدئة حبيب كلها تبوء بالفشل.. حتى عندما وصلت سيارة الشرطة ونزل منها ضابط ومجموعة من العساكر وثلاثة أمناء شرطة.. لم ينجحوا أيضا في تهدئة حبيب.. بعد لأي جاء حسين بعد اتصال (أبو سريع) به, الجريمة من المفترض أنها تخص المباحث الجنائية.. إلا أن بُعدا سياسيا أُضيف إليها فتدخل جهاز أمن الدولة.. وحبيب لم يهدأ بعد .. اقترب منه حسين وحاول إقناعه بأن الأمر تحت السيطرة والسارق حتما سيُقبض عليه.. إلا أن حبيبا استقبل محاولات حسين تهدئته صائحا في وجهه:"وما فائدتك إذن! كنت أعلم أن هذا سيحدث وأخبرتك بشكوكي التي تحققت في النهاية! انصرف لا أريد أن أراك أمامي!!".. بأذنين حمراوين ابتعد حسين بعد أن أُهين وسط هذا الجمع من الناس .. آوى إلى ركنٍ بعيد عن هذا الصخب وأخرج هاتفه وبدأ في الاتصال بأحدهم .. كان مطرقا برأسه للأرض منتظرا أن يجيب الطرف الآخر .. انتبه لحذائه الأسود ذي التشققات الواضحة كوجه رجلٍ بلغ من الكِبَر عِتِيَّا .. فكر:"سأشتري الليلة حذاءا جديدا من (سمارت مان) بوسط البلد".. وعندما أجاب الطرف الآخر على الهاتف :"نعم يا حسين" رد عليه :" لا .. (سمراء) أفضل من (سمارت مان) !" - "ماذا تقول؟" - "معذرة يا (فتحي) .. كنت أريد أن أخبرك بأن عمليتنا تحت السيطرة .. (فؤاد) خبأ قطعتي ذهب داخل محل (عبد الرحمن) وسيشهد ضده في النيابة ....نعم؟ يا عم والله لا تقلق! وكتاب الله القضية تلبست عبد الرحمن ولا فكاك! صحيح .. أريد أن أقابلك لنتفق على نصيب فؤاد من تلك العملية..." عبد الله شعبان