مقال للأديب الكبير أحمد أمين رحمه الله ، مما نشره بمجلة الرسالة وجمع بعد ذلك في كتابه ( فيض الخاطر ) بتاريخ 1357ه أي منذ 75 عاما تقريبا يتحدث فيه عن أخلاق العمل .. *** نجار ونجار الأديب الكبير : أحمد أمين استأجر دكانًا أمام منزلي الأسطى حسن النجار . وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره ، مَهزول الجسم ، أصفر الوجه ، ينتعل نعلا بالية ، ويلبس ثيابا رثة ، وعلى رأسه طربوش أسفله أسود ، وأعلاه أحمر ، قد دفعه إلى الوراء ليُظهر (( قُصَّته )) من شعره ، فرّعها فروعا ورفعها إلى السماء لتناطح السحاب . ينظر إليك بعين مُنتفخة كأنه قريب العهد دائمًا بنوم طويل ثقيل ، ويمشى متطرحا كأن في رأسه دائما فضلة خُمَار ، وعلى وجهه غَبرة كأن الماء لم يمسه أبدًا ؛ أقوى شيء فيه لسانه في السباب ، وصوته في النزاع . ليس لفتح دكانه أو إغلاقه موعد ، ولا لعمله وراحته وقت محدد ، يحلو له أحيانًا أن يغلقه في الصباح ويفتحه في الظهر إذا بدأ الناس يَقيلون ، وأحيانًا يسره أن يتركه مغلقًا طول النهار ويفتحه ليلا حيث يبدأ الناس في النوم ، فيضيء مصباحه ، ويخرج عدده وأدواته في الشارع ، ويأخذ في نجارته ما حلى له ذلك ، فحينًا إلى الفجر ، وحينًا إلى الصباح ؛ تحاول أن تصده عن ذلك وتنصحه فيظهر الطاعة ثم يستمر في خطته ؛ وأحيانًا تتقلب دكانه في الليل حانة يجتمع وأصحابه فيتنادمون ويتشاربون ؛ حتى إذا تمشت الخمر في مَفَاصلهم ، ودبت في عظامهم ، ذهبت بهم كل مذهب ، وأخذت منهم كل مأخذ ، فيتغنوا أحيانًا ، وَوَقْع الغناء في نفوسهم أحسن وَقْع ، وصاحوا جميعًا بصوت واحد : آه ! ممدودة ما طاوعتهم أنفاسهم – وأحيانًا يعدلون عن الغناء إلى تبادل النكات ، ويعقبون كل نكتة بضحكة عالية تَسُرّ نفوسهم وتخرق آذان جيرانهم . * * * وإذا فتح الدكان نهارًا فمعرض غريب ، لا لجودة المصنوعات ، ولا دقة المعروضات ، ولكن لأصحاب الحاجات قد أتوا يطالبون بإنجاز أعمالهم ، والشكوى من تأخير طلباتهم ؛ ثم يصل الأمر في أغلب الأحيان إلى تدخل البوليس ، وأحيانًا يكون ما هو أدهى وأمرّ ، إذ يكون قد سلّم إليه صاحب حاجة دولابه أو كرسيه لإصلاحه ، فلم يجد دولابه ولا كرسيه ، لأن الأسطى حسن اضطرته الحاجة الملحة فباعة وأضاع ثمنه . وهكذا أصبح شارعنا بحمد الله معرضًا في النهار للسباب والمنازعات والخصومات والبوليس ، ومنتدي جميلا ليلًا لأهل السّماح الملاح ، إلى الصباح . وأخيرًا : عدت من عملي يومًا فرأيت الزحام شديدًا على دكان الأسطى حسن ، وإذا جَلَبَة وضوضاء ، وصياح يملأ الآذان ، وإذا المنادى ينادى لبيع عدد النجارة وأدواتها : منشار في حالة جيدة ! عشرة قروش – أحد عشر – اثنا عشر . أَلاَ أونا – أَلا دو – أَلاَ تريه . وهكذا حتى تم بيع كل ما في الدكان ، وفاءً لأجرتها خمسة شهور تأخرت على الأسطى حسن . وكان شعوري إذ ذاك مزيجًا من غبطة وألم ، وحزن وفرح ؛ فقد آلمتني خاتمته ، وأفرحني ما منّيت به نفسي بعد ذلك من نوم هادئ سعيد . ودعوت ربي جاهدًا أَلا يرغب في الدكان مستأجر بعدُ ، فإن كان ولابد فكَوّاه أو عطار ، لا نجار ولا بائع فراخ ولا مبيض نحاس ؛ وقَصَرْت شكواي على الله بعد أن جربت البوليس فوجدته لا يأبه لهذه السفاسف ، وليس له من الزمن ما يلفته لهذه الصغائر . * * * ولكن أبى القدر أن يستجيب دعوتي – وكأن الدكان وقفٌ على سُكْنى النجارين – فقد سكنها هذه المرة أيضًا نجار ، ولكنه من صنف آخر ، هو نجار رومي ، لم أشعر بسكناه إلا بعد شهر ، إذ لم يكن في عمله شيء غير عادي ، فهو يفتح دكانه وقت العمل ، ويغلقها عند الغروب ، وينجر فتندمج أصوات دقاته ونجارته في أصوات البائعين وحركات المارين . دعوته يوما لإصلاح دولاب ، فإذا شاب يشترك مع الأسطى حسن في سنه ، ويختلف عنه في كل شيء آخر ، جميل الهندام ، وإن لم يكن ثمينه ، صفف شعره في أناقة ولمعان ، بينما اعتنى الأسطى حسن (( بقصته )) فقط – عمل له في هدوء وإتقان ، وكأنه يحترم نفسه ويحترم عمله ، ويقدّر نوع معيشته وما يلزم لها ، فطلبَ ضعف ما كان يطلبه زميله فدفعته راضيًا . له في جوارنا ستة أشهر أو تزيد ، لم أسمع صوته ، ولم أسمع شاكيًا من تأخر موعد أو تصرف سيء ؛ ولم يقلق راحتي كما أقلقها مَن كان قبله ، فهو وإن لم يكن كواءً أو عطارًا كالذي رجوت ، فليس شرًا منهما ، وتبين بعدُ أن الأمر ليس نوع الصناعة ، وإنما هو نوع الصانع . * * * ونزلت بيتًا في ضاحية من ضواحي الإسكندرية ، فرأيت ( فيلا ) جميلة على شاطئ البحر ، لا يسكن مثلها – عادة – إلا مَن ورمت جيوبهم ، وانتفخت محافظهم ، راديو ، وبيانو ، وما شئت من أسباب التنعيم ورفاهة العيش ؛ ولكن لفت نظري رجل يلبس قباء ، ويحزم وسطه بحزام ، وعليه جاكته بسيطة نظيفة ، قد أرخى لحيته ، ودفع طربوشه إلى الوراء ، يحمل أقمشة على كتفه يكاد ينوء بحملها ، وهو من الصنف اليهودي الذي تراه يجول في الشارع كل يوم يبيع ( الدمور ) و ( الزفير ) و ( الباتستا ) . حيرني أمر هذه الفيلا بجمالها ونظافتها ، وأمر هذا الرجل يخرج صباحا يحمل سلعته على كتفه وقد سمنت ، ويعود مساء وسلعته على كتفه وقد هزلت ؛ أمستأجر هذا الرجل حجرة صغيرة في البيت ، أم قريبٌ فقير لأصحابه عطفوا عليه وأووه ، واحتملوا منه أن يعيش بينهم وينزل في مسكنهم ؟ - وفي الحق كان هذا لغزًا شغلني شرحه ، وأعياني حله ؛ ثم هدتني المصادفة البحتة إلى استكشاف الأمر وافتضاح السر : هو ربُّ البيت ! وعميد الأسرة ، وليس فيها إلا زوجة وأولاده ؛ولكن كلهم يعمل ، وكلهم يكسب : هذه خياطة ، وإحدى بناتها معلمة بيانو ، وهذا ابنه كهربائي ، وهذا الآخر يعمل في مصلحة التلغراف ، وكل كاسب يعطى ما كسبه لأبيه ، ويجمعون من ذلك ما يجمعه موظف وسط أو فوق الوسط ، ثم هم جميعًا يعلمون كيف يعيشون ، وكيف ينعمون بالعيش بأقل نفقة ، ويعلمون ما ينفقون وما يدخرون . قارنت بين هذا الرجل ورجل مصري آخر ،كان يجول أمام بيتنا أيضًا ، ويحمل سلعة كسلعة اليهودي ، وينادى على ( حرير المحلة ) ، وتصورته وبؤسه ، وتصورت أسرته وبُؤسها ، وكيف يتحد العملان ، وتتباين المعيشتان . * * * ثم نسمع الشكوى الحارة من العمال العاطلين ، والمتعلمين العاطلين ، ونسمع من يُرَجِّع العِلّة إلى تَفَشّي الأمية حينًا ، وإلى نوع الدراسة حينًا ، وإلى غير ذلك من أسباب ؛ وليس في نظري سبب أهم من نقص الأخلاق ، ولست أعنى أخلاق الكتب ، ولكن أعنى أخلاق العمل ، من معرفة طرق الكسب ، وإجادة العمل ، وحُسْن العرض ، وعدم الأنفة من مزاولة الحرفة مهما حقرت ، وضبط الدخل والخرج ، وفوق ذلك كله : العلم بفن الحياة . أحمد أمين