"الاسم الكامل: إنسان.. الشعب الطيّب.. والديَّ". (الشاعر محبوب شريف) حوار بين شباب على مقهى التجارية - محطة الرمل - الإسكندرية: "أغلب سكان مصر من المسلمين وكل سكانها يتحدثون العربية، ألا يجعلها هذا إسلامية عربية؟ ثم قل لي بالله عليك، هل من رابطة أقوى من الدين -رابطة الإنسان بربه- لنتخذه هوية لنا إلى جوار هوية اللغة؟". وضعت كوب القهوة جانبًا وسألته بحذر: "أنتَ إذن تتفق مع الرأي الغريب القائل بأن من الأفضل أن يحكم مصر ماليزي مسلم عن أن يحكمها قبطي مسيحي؟". "سبحان الله! أقول لك مصر إسلامية، تقول لي يحكمها قبطي؟!". تأملتُ لحيته الصغيرة ومظهره المبالغ في التحفظ المتناقض مع الطبيعة "الثورية" لمن يرتادون هذا المقهى من الشباب، بينما تدخَّل رفيقنا الثالث في الحوار بحدة: "بالعقل! أنت تعيش في بيتك في أمان الله، أجيء أنا وأفرض عليك هويتي؟ بأي حق؟ مصر فرعونية منذ عرفها التاريخ! والعرب المسلمون ما هم إلا غزاة وافدون كغيرهم، فكيف ينزعون عنها ثوبها القديم؟ يكفي ما أصاب مصر من تشويه لهويتها الأصيلة من هذا وذاك! مصر مصرية فحسب.. لا إسلامية ولا عربية ولا أي شيء سوى مصرية!". اندفعا في نقاش حاد، بينما سرحتُ أنا محاولاً تذكر اسم ذلك المرض الخطير الذي يصيب الإنسان أحيانًا، فيجعل جهاز مناعته يهاجم نفسه معتبرًا أن مكوناته الرئيسية أجسام غريبة يجب إفناؤها تمامًا ولفْظها خارج الجسد. *** "لقد علمتني حياة الكتابة أن أرتاب من الكلمات، فأكثرها شفافية غالبًا ما يكون أكثرها خيانة. وإحدى هذه الكلمات المضللة هي كلمة "هوية" تحديدًا. فنحن جميعًا نعتقد بأننا ندرك دلالتها، ونستمر في الوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة". (أمين معلوف - كتاب: الهويات القاتلة)
*** عندما عدتُ لمنزلي قررتُ القيام بما أجلت كثيرًا، أعني "فلترة" دعوات الانضمام لGroups على Facebook. بينما أنا أتصفح الدعوات وجدتُ دعوة لمجموعة بعنوان "أنا مصري مش عربي"، ابتسمتُ في مرارة للصدفة الغريبة، ولتناقض عنوان المجموعة مع صورتها الرئيسية: هلال وصليب متعانقان يحملان ألوان العلم المصري.. من المعروف أن الهوية العربية بالنسبة للأغلبية الساحقة من المصريين المسلمين ترتبط بالهوية الإسلامية، تمامًا كما يرتبط المفهوم الوطني بذلك الديني عند الأقباط المسيحيين منذ أول أيام المسيحية في مصر، فكيف تُنتَزَع الآن ارتباطات اندمجت في النسيج المصري منذ قرون ليست بالقليلة؟ أضيق بذلك "الاكتشاف" المباغت لبعض العباقرة أن هوية مصر القبطية تتعارض مع الروابط بين المسلمين المصريين وإخوانهم في كل العالم، وكذلك بالاكتشاف المماثل لبعض من لا يقلّون عبقرية، أن عروبة مصر تعتبر خطراً يهدّد أصالتها وتراثها وتاريخها الضارب بجذوره في أعماق تربة التاريخ البشري. المشكلة أن لكلا "العبقريين" صاحبي هذين الاكتشافين مبرراته التي يراها عادلة ليعتبر أن من واجبه الدفاع عن "تَفَرُّد" هويته على حساب باقي المكونات الإنسانية للبنيان المصري.. فالقائل بأن على الهوية العربية لمصر أن تطرد باقي الهويات هو في الغالب مؤيد للقومية العربية إلى حد التطرف في رفض أية قوميات أو هويات داخلية أخرى، والرافض لوصف مصر بالعربية يرى غالبًا أن ارتباط مصر بالعرب قد أخّرها عن اللحاق بالعالم المتقدّم، ويقارنها في ظل الارتباط بالعروبة بها في العصور القديمة عندما كانت متفردة بذاتها. المشكلة الأخرى أن كلاً منهما يصنع جبهته، فالأول يجد تأييدًا عريضًا من التيارات المتشددة دينيًا، الرافضة -بطبيعتها- لكل من يخالفها الرأي والعقيدة، وإن كان أخًا في الوطنية، والآخر يكون أغلب مؤيديه من "الليبراليين جدًا" الذين يرون في التفرُّد تخلصًا من "قيود" المجتمع العربي المسلم التي يعتبرونها "شماعة" يلقون عليها المسئولية عن حالة الانبطاح التي أصابت مجتمعنا المصري على مختلف المستويات في الخمسين عامًا الماضية. *** النظر في كبد التاريخ: في الحضارات القديمة كان الكهنة يؤمنون أن النظر في الكبد الدافئ لأضحية ذُبِحَت لتوها يفتح طاقات على المستقبل.. حاولتُ أن أفعل شيئًا مماثلاً من حيث المضمون ومختلفًا من حيث التقنية.. في محرك بحث Google كتبتُ "فراعنة" واخترت "صور".. انتقيت صورة تصور عملية الحصاد.. قمت بعمل Zoom على وجه أحد الوجوه... بقيتُ أتأمله لدقائق حتى لم يعد مجرد وجه مرسوم على جدار يفصلني عنه فضاء الإنترنت، صار لحمًا ودمًا.. اسمه؟ فليكن "حوري" أو "بانوب" أو "نافا".. فليكن ما يكون.. أراه يتلوى تحت سياط الهكسوس الذين لم يرُق لهم لونه الأسمر الطيني، أرى "كيرلس" حفيده البعيد يئن على صليب الرومان الذين حاولوا عبثًا أن يُرجعوه عن إيمانه بعقيدة المسيح. ل"كيرلس" ابن رضيع، يكبر ويأتي من نسله المتتالي "عبد الله" الذي يثور مع المصريين -عربًا وقبطًا- ضد والي الخليفة المأمون على مصر لما أحدث الوالي بها من المظالم، حتى يضطر المأمون أن يأتي مصر بنفسه ويعدّل الأوضاع. "عبد الله" أعمامه عرب من قبيلة يمنية، وأخواله أقباط من الصعيد. أما حفيد أحفاد "عبد الله"، فهو "حسان" الذي سقى دمه أرضه وهو معلّق رأسًا على عقب بعد أن تكسّرت على جسده عصا المسئول العثماني عن جمع ضرائب الباشا المتربع في قلعة الجبل.. ولو أن لديك رغبة في أن تعرف ما الذي جرى لآخر أحفاد "حسان" فالأفضل أن تنتظر حتى يشفى مِمّا تعرض له من تعذيب في أحد أقسام الشرطة بعد خروجه في مظاهرة حاشدة أمام مجلس الدولة! بالتأكيد كان في القصة الطويلة لأحفاد ذلك الفرعوني المجهول -صاحب الرسم على الجدارية- أفراح وأوقات للسعادة ولحظات للانتصارات والإنجازات، ولكن وحده الدم له القدرة على رسم ذلك الخط الطويل على جسد التاريخ.. حاوِلْ عبثًا أن تقطع ذلك الخط.. ستفشل.. ولو نجحت فلن ترى إلا مراحل زمنية كل على حِدة.. لا تصنع شيئًا من "المصري" الذي تبحث عنه، وستضطر عندئذ أن تعيد ترتيب النقاط المكونة لذلك الخط، لتستعيد وجودك نفسه. المصري... من؟ "هل نحن فراعنة؟ أم عرب؟ أم أفارقة؟ أم شعوب البحر الأبيض؟ أم إننا كل هؤلاء.. مما يعني أننا شعب هجين ليس له أصل واحد، وأن مصر تجمع عشوائي من شعوب وافدة؟ وهذه الفكرة الخبيثة كان يرددها "اللورد كرومر" لينزع عن المصريين أخطر سلاح يهدد الاحتلال الإنجليزي، وهو الوحدة الوطنية". "وكان الهدف من هذه المزاعم الاستعمارية هو إطلاق يد الاحتلال في بلد ليس له صاحب!". (د.جمال بدوي - كتاب: مسلمون وأقباط من المهد إلى المجد) وضعتُ الكتاب جانبًا وفكرتُ.. حقًا.. نحن نحتاج أن نسأل أنفسنا "من نحن؟" ولكن ليس بحثًا عن هوية واحدة ننتصر لها، وإنما بحثًا عن مكونات هويتنا المصرية كلها، لنعرف الروابط بينها، ونضعها متجاورة كلعبة Puzzle حتى تتكون الصورة واضحة. علينا أن نعرف من نحن.. ليكون وقوفنا دفاعًا عن هويتنا المصرية على أرض صلبة.. إذن فالبداية من هذا السؤال: نحن المصريون.. من نكون؟ (يُتبع) مصادر المعلومات: 1- شخصية مصر: جمال حمدان. 2- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن. 3- مسلمون وأقباط من المهد إلى المجد: د.جمال بدوي. 4- الهويات القاتلة: أمين معلوف. 5- المسلمون والأقباط: المستشار طارق البِشري. 6- مواطنون لا ذميون: فهمي هويدي.