أقرأ عن أحداث مؤسفة على أسباب تافهة.. فتقوم الفتن، فأسأل نفسى سؤالاً يلح علىَّ بشدة.. هل نحن المصريين شعب واحد أم شعبان؟ فمن الناحية الجغرافية.. نحن شعب واحد.. وحدنا النيل فتجمعنا حوله، ووحدنا الطمى فعرفنا الزراعة، ووحدنا خطر الفيضان.. فلم شملنا.. وعرفنا الوحدة والتوحد.. وهى من خصائص الحضارة النهرية.. أى أنا وأنت حتى نعيش، وليست أنا أو أنت حتى يبقى واحد منا على قيد الحياة. ونحن شعب واحد من الناحية البيولوجية، فما أسهل أن تعرف المصرى من شكله فى الخارج، ولكن من المستحيل أن تعرف إذا كان مسيحياً أم مسلماً.. فنحن شعب واحد.. من جد واحد.. اسمه «رمسيس» ومن هو غير ذلك فهو أجنبى وافد على مصر. ونحن شعب واحد من الناحية السياسية.. تكونت فى مصر أول حكومة مركزية 5619 ق. م «مانيتو» أو 3200 ق.م «المتحف البريطانى» «الأسرة الأولى».. هذه الحكومة لم ينفرط عقدها يوماً حتى الآن. ونحن شعب واحد من الناحية التاريخية.. يجمعنا تاريخ هو فجر الضمير «برستد» وهو الذى قال عنه شامبليون: يتداعى الخيال ويسقط بلا حراك تحت أقدام الحضارة المصرية القديمة، كما قالت عنه العالمة الألمانية هامرشتاين: كيف كان سيكون حال العالم لو لم توجد الحضارة المصرية القديمة؟ ونحن شعب واحد من الناحية الدينية.. فالإسلام يقول: قل هو الله أحد، والمسيحية فى قانون الإيمان تقول: بالحقيقة نؤمن بإله واحد، والقرآن الكريم يقول: لتجدن أقربهم مودة.. إلخ، والإنجيل يقول: كيف تدعى أنك تحب الله الذى لا تراه، وأنت غير قادر على أن تحب الإنسان الذى تراه، إن حبك للخالق يتجلى فى حبك للمخلوق. والقرآن الكريم يقول فى سورة البقرة آية 62: «إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، من آمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحاً، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون». والمسيحيون يؤمنون بالله، واليوم الآخر، ويعملون صالحاً، فلماذا تروعهم قلة وتجعلهم يحزنون؟! نعم نحن شعب واحد من الناحية الدينية، فأول من رتل القرآن الكريم هو ورش المسيحى القبطى أى المصرى، والذى ألف لنا «لسان العرب» هو ابن منظور المسيحى القبطى، «لماذا زالت كلمة القبطى.. وقد كانت موجودة إلى عهد قريب؟!» وأول من سجل لنا الأحاديث النبوية الشريفة.. كان أقباط مصر.. سجلوها على أوراق البردى. ونحن شعب واحد فى كفاحنا الوطنى، فقد كافحنا جميعاً فى طرد الهكسوس، ثم فى طرد الرومان فى موقعة الصوارى البحرية، ولم يكن للعرب دراية بالبحر، وكافحنا سويا فى حطين وعين جالوت، وهذا يحقق ما قاله الرسول الكريم: «جند مصر هم خير أجناد الأرض»، كما كافحنا سوياً.. مسلمين وأقباطاً «عمر مكرم والمعلم جرجس الجوهرى»، وطردنا خورشيد باشا الظالم، وأتينا بمحمد على باشا، وفى عصر سعيد باشا نجح البابا كيرلس الرابع كرسول سلام بين مصر وإثيوبيا بعد أن كادت الحرب تشتعل بينهما، كما عين سعيد باشا حاكما قبطياً على السودان، أما عصر إسماعيل باشا، فقد أعطى القدوة الحسنة فى الوحدة الوطنية، ليس هناك بعثة للخارج إلا وفيها الأقباط، وكذلك المدارس الأميرية، ومجلس الشورى، حتى إن رئيس ديوانه، سكرتيره، محافظ القليوبية، محافظ المنوفية، رئيس إدارة السودان.. كانوا جميعهم من الأقباط، حارب التفرقة بحزم، فعاشت مصر عصراً من عصورها الذهبية. وقف الأقباط إلى جانب عرابى، وطالبوا بعودته وزيراً بعد أن عزله الخديو، بل وقع البابا كيرلس الخامس على قرار خطير باعتبار الخديو خارجا على الشرع والقانون، وطالبت مصر كلها مسلمين وأقباطاً.. بعزل الخديو ومحاربة الإنجليز، وكانت موقعة التل الكبير.. انكساراً عسكرياً، ولكنها كانت انتصاراً عظيماً للوحدة الوطنية. نعم نحن شعب واحد فى كفاحنا الوطنى.. وقف الأقباط ضد اللورد كرومر، فطردهم من وظائفهم، واستبدلهم بالسوريين، وقال: أقباط مصر أعداء لنا، ولابد أن نبادلهم عداء بعداء، ورفض البابا كيرلس الخامس مقابلة اللورد كتشنر، وقال لتلميذه: اذهب يا ولد وقل للورد: البابا لا يقابل أحداً بدون موعد سابق! وحين جاء يوحنا هوج يبشر بالمسيحية فى مصر.. هاجمه البابا، فلما سأل هوج البابا: لماذا تهاجمنى ونحن نبشر للإنجيل؟ رد البابا الإنجيل عندنا من قبل أن يكون لأمريكا وجود، واختلطت دماؤنا سوياً فى ثورة سعد، وفى 48، و56، و67، و1973. ما الذى حدث إذن .. إنه التعليم الذى قال عنه زكى نجيب محمود.. نحن لا نفترق عن القرن الحادى عشر! والإعلام الذى قال عنه يوسف إدريس: أعطونى التليفزيون سنة أصنع لكم شعباً جديداً، وجهاز المناعة الداخلى الذى انهار وكأن فيروسات الإيدز أصابته، واليد الرخوة التى بجب أن تضرب بحزم على كل من يهدد سلامة الأمن الداخلى، الرياح الشريرة المتخلفة التى تهب علينا من شرق وغرب، وصرخ بوش الأب يوماً: أمة فى خطر.. أمريكا فى خطر.. وهى التى وضعت علمها على سطح القمر! ومصر التى خرجت من ال 500 جامعة متميزة.. لم يصرخ أحد ويقول مصر فى خطر؟! صحيح إذن: ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم. أبوالعلاء المعرى [email protected]