"تهديدات باستهداف السفارة اللبنانية في القاهرة انتقاماً لقتل الشاب مُسلّم".. هكذا تطالعنا الأخبار اليوم.. رغم أنه منذ يومين فقط لو أوقفت أي مصري يسير في الطريق وسألته عن لبنان واللبنانين، ستجد قصائد مدح في كرم اللبنانين، وروحهم الودودة وقربهم من المصريين، ولن يخلو الأمر من أن تجد من يشكر لك في جمال اللبنانيات أيضاً.. ولكن هذا كان منذ يومين.. الآن، يكفي أن تأتي سيرة لبنان في أي مجلس حتى تبدأ قصائد الذم والإهانة والدعاء بل والمطالبات بالانتقام كذلك.. والحقيقة أن الأمور لا يمكن أن تسير هكذا، أو بمعنى أصح تبقى على السير في هذا الاتجاه؛ لأنها ليست المرة الأولى التي يحدث بها هذا ويتحول صديق الأمس إلى أعدى أعداء اليوم في لمح البصر.. فلا يمكن أن تحركنا دائماً فكرة قطيع البشر الغاضب، فنبدأ دائرة من الانتقام لا تنتهي.. فها هو الشاب "مسلّم" يُتهم بقتل 4 أشخاص (شيخان وطفلان)، ويثبت تحليل الDNA أنه الفاعل، الطبيعي في وجود جريمة بشعة كهذه أن يتعاطف العالم بأكلمه مع من قُتِلوا، ومع ذويهم.. لن يفكر أحد ما هي جنسية القاتل أو القتيل.. يكفي وجود أربعة جثث بهذا الشكل لكي تثير التعاطف، كما كان من الطبيعي بل والمنطقي أيضاً أن يحاكم القاتل ويأخذ أقصى عقوبة، والتي لن يتمنى أي شخص كان -مصرياً أو لبنانياً أو أي جنسية تسمع عن الحادث- بأن تقل عن الإعدام جزاء لما صنعت يداه.. ولكن ماذا حدث؟! تحركت شهوة الانتقام، والرغبة في الثأر، هذه المرة رغبة شرسة (جماعية) في رؤية الدم والعذاب والألم.. فلا معنى لما حدث في لبنان سوى أن هذه الجموع المهللة أسفل جثة معذبة معلقة، أرادت أن تطفئ شهوة انتقام حادة، فهذا هو المبرر الوحيد كي يستطيع كل هؤلاء أن ينحّوا إنسانيتهم جانباً ليقوموا بهذا الفعل.. وهكذا تبدأ الدائرة في الدوران، بل يبدأ حجمها في التضخم، فلم تكن جموع الغاضبين في "كترمايا" فقط هم من فقدوا عقولهم، وتركوا رغبة الانتقام تحرّكهم.. بل بدأ كثير من المصريين تشتعل في صدورهم رغبة عارمة في الانتقام لمقتل المصري والتمثيل به بهذا الشكل.. وبدأت دعوات المقاطعة والرد، بل والانتقام والتهديد كذلك.. لم يتوقف أحد ليفكر لثانية أن الرغبة الحارقة للانتقام التي تحركه، هي ما حركت الآخر ودفعته ليفعل ما فعل، وإنه بتفكيره هذا لا يتميز عن الآخر في شيء..
فهو في النهاية سيتحول إلى مجرم هو الآخر، ولا يقلل من إجرامه أن الآخرين أجرموا قبله.. بل ربما زاد خطؤه؛ لأنه ملك ميزة الوقت والتفكير واتخاذ القرار.. ولو فكّر من يدعون للانتقام هكذا، لوجدوا أن أهل "كترمايا" لم يكسبوا شيئاً بانتقامهم، فبدلاً من أن يتعاطف الجميع مع الضحايا الأربعة اللبنانين، وأن تلقى اللعنات على رأس القاتل، تبدّل الحال، وكاد ينسى الجميع الضحايا وحظى القاتل/ القتيل بكل التعاطف.. فماذا استفاد قتلى الجريمة الأولى؟ وماذا استفاد ذووهم؟ بل وماذا استفادت القرية بأكملها؟ سوى ضياع حقها، وهو الحق الذي كانت ستأخذه بطبيعة الحال، فلم يكن القاتل لينجو من حكم الإعدام بأي حال.. والآن نريد نحن أيضاً كمصريين، أن ندخل هذه الدائرة الجهنمية، فندعو للانتقام من اللبنانيين، ولن نستفيد شيئاً، سوى أن نكون فقط القاتل الهمجي الجديد المتواجد في الصورة، بينما سينصب التعاطف مع الضحايا الجدد بطبيعة الحال.. فقط سنفتح الباب لسلسلة من الجنون، فيطلب اللبنانيون الانتقام من المصريين لما فعلوه بهم، فيعيد المصريون الكرّة وهلم جرا.. والحقيقة أن التاريخ علمنا أن الانتقام لا يفيد أحداً حتى منفّذه، بل يضر الجميع، حيث يفقد المرء آدميته، ويتحول إلى وحش لا يَختلف عمن انتقم منه.. والحقيقة الأكثر وضوحاً أن الحادث بالفعل حادث فردي، فلا يمكن أن يتخيل عاقل أن "مُسلّم" قُتل لأنه مصري؟؟، فلو كان من أي جنسية فإنه كان سيلاقي نفس المصير.. ما دام من تحرك هي الجموع الغاضبة فاقدة العقل وحسن التمييز، فلا يجب تحويل المشكلة إلى أزمة بين بلدين كانا شقيقين أمس.. ففي الفترة الأخيرة احترفنا أن نفقد كُل من تربطنا بهم رابطة ما، من دم أو لغة أو دين، فصرنا نقاطع الجزائر من أجل مباراة، ونكره سوريا من أجل خلاف وجهات نظر، ونتصارع مع الفلسطينيين من أجل إرضاء أمريكا وإسرائيل، وها هي لبنان تدخل في القائمة، لتصبح حبة جديدة في عِقد عزلتنا عن محيطنا الحقيقي.. تلك العزلة التي نفرضها على أنفسنا بأيدينا.. يجب أن نحكّم عقولنا ونفكّر تفكيراً سليماً، ونضع الموقف في إطاره الصحيح؛ فالجريمتان بشعتان، ومن فعلوها كلهم مجرمون.. فلا داعي لأن نتحول جميعنا إلى مجرمين من أجل إرضاء شهوة واحدة فقط.. هي الثأر.