أستطيع تحمّل الصيف بحرارته، برذالته، بسلاطاته ببابا غنوجه؛ ولكن.. داخل المنزل.. فأنا على عكس سائر مخلوقات الكون، أدخل كل عام في بيات صيفي.. ويكون يوماً لم يخترعوا له لوناً عندما أضطر للنزول من المنزل في نهار أحد الأيام الصيفية، ويا سلام لو كان هذا اليوم هو أحد أيام موجات الحر القادمة رأساً من جهنم الحمراء؛ ساعتها فقط أستطيع أن أقولها بكل شجاعة أنني.. أكره البشرية وكوكب الأرض ومجموعتنا الشمسية؛ بل ومجرة درب التبانة بأكملها. في يوم من أيام الصيف اضطررت لقبول موعد اجتماع في عزّ النهار، وفي هذا اليوم -فقط من أجل عيوني- كانت موجة شديدة الحرارة تعمّ القاهرة.. في البداية ترددت كثيراً؛ ولكن أهمية الموعد جعلتني أحسم أمري وأرتدي ملابسي وألقي بنفسي في سبيل التهلكة و... أخرج. عندما اصطدمت بالشارع للوهلة الأولى ووجدت المباني تتراقص أمامي من شدة الحرارة، أحسست أنني صرت أمشي بلا إحساس مثل باقي البشر الذين أراهم أمامي سكارى وما هم بسكارى؛ ولكنها لوعة الحرارة التي أذابت نصف أمخاخهم وأنا معهم.. عشر دقائق وأنا أمشي وكأنني واقفة وأرى وأسمع؛ ولكنني غير مستوعبة؛ حتى وصلت أخيراً لمحطة المترو ونزلت على الرصيف. عندما تقف على رصيف المترو في هذا الوقت لن تدرك وجود الناس حولك إلا عندما تراهم؛ فلا أحد ينبس ببنت شفة لأن لا أحد يقوى على بذل أي مجهود ولو حتى في الكلام.. كانت أعداد الناس كبيرة؛ فيبدو أن القطار الحديدي قد أعلن إضراباً عن العمل في مثل هذه الأوقات الحارة.. وجدت عامل النظافة العجوز جداً يجلس على أحد كراسي المحطة وهو يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد ترك الناس المقاعد المجاورة له خاوية وكأنها وباء؛ فجلست في الكرسي المجاور له، وصار هو يدقق بي النظر لا أعرف لماذا.. بعد دقائق حضر -لا ليس المترو طبعاً- رجل في الثلاثينات من عمره يبدو أنه المشرف على عمال النظافة ودار بينه وبين العامل العجوز هذا الحوار: - إنت قاعد كده.. ليه مش بتشتغل؟ - ما أنا لسه منظف قضبان المحطة بعد ما طلع المترو اللي فات، وقعدت شوية أرتاح أصل الدنيا حر قوي.. - حر؟!! ما هي حر علينا كلنا.. يلا قوم اطلع فوق نظّف.. - حاضر؟ وقام الرجل من على الكرسي وفي يده أدوات النظافة، وطبعاً كما ذكرت قبلاً؛ فقد كنت في حالة يرثى لها؛ فلم أقوَ حتى على التعاطف مع الرجل، واكتفيت بحالة "التنبلة" و"التتنيحة" العَجَب التي كانت تسيطر عليّ. لم يكمل الرجل بضع خطوات حتى أتت سيدة شابة من أقصى المحطة، معها طفلها الصغير الذي يمسك يد أمه بيدٍ، وباليد الأخرى يمسك بكيس عصير قصب يبدو أنه من عند "سامح تلوث" صاحب "جنة الفواكه" محل العصير المجاور لمحطة المترو، ورغم أن الولد تبدو عليه النظافة وأيضاً الأم لها مظهر أنيق ونظيف؛ إلا أنه يبدو أنها لم تسمع عن أوبئة الصيف التي تنتقل للأطفال بسهولة، وطبعاً ليس لديها فكرة عن أن هذا الصيف بالذات يعتبر صيف الأوبئة في مصر. المهم.. فجأة ركض الصغير بسرعة وقفز في الكرسي المجاور لي وقد خرجت نافورة من كيس العصير لتتساقط قطراتها على ملابسي ووجهي.. لم يبالِ الولد وجلس يشفط العصير شفطاً بصوت يضاهي في غلظته عربة الرش. في هذه الأثناء كانت الأم واقفة مع عامل النظافة العجوز وهي تصيح بأعلى صوت "أنا والله كنت بانده لك عشان أديك الفلوس دي.. عشان كده بس أنا بانده عليك...".. وبعد أن أسمعت كل ركاب المترو على رصيفنا والرصيف المقابل أنها كانت تتصدق على العامل العجوز، وقد توقعتُ أن تأخذ الرجل المسكين من يده وتدور به على كل الركاب نفراً نفراً معلنة أنها قامت بالتصدق عليه بالمبلغ الفلاني، ثم تجلّد الرجل بعدها لتأخذ باقي حقها وثوابها. بعدها أتت مسرعة إلى طفلها الوديع وقد فرغ من الشفط ويمد لها يده بالكيس الفارغ لتلتقطه منه و.. و.. تلقيه بكل طاقتها على قضبان القطار التي فرغ الرجل العجوز المسكين للتوّ من تنظيفها.. ثم جلسَتْ إلى جواري تتحدث في تليفونها بصوت أسمع المارة في الشارع المجاور لسور المحطة.. والعامل العجوز واقف أمامها وفي عينيه نظرات الحسرة.. حَسَبْتها أنا بسرعة.. نار جهنم مولعة حولنا، وتأخير المترو غير المحتمل، والناس لا يطاقون في هذا اليوم، ولا أعرف هل السبب ضيقي من الحر أم السبب فيهم بالفعل؟.. ملعون أبو الذل.. مش رايحة في حتة: - آلو؟؟ أيوة يا هبة هتتأخري ولا إيه؟ - مش جاية...