على متن سفينة تتجه إلى جزيرة "شاتر - Shutter" قبالة سواحل "ماساتشوستس" عام 1954، تبدأ رحلة المارشال الأمريكي "تيدي دانيالز - ليوناردو دي كابريو" ومساعده "شاك أول - مارك روفالو" في مهمة خاصة للتحقيق في اختفاء المريضة "ريتشل سولاندو" من تلك الجزيرة التي أصبحت أخطر سجن في العالم، وأغرب مصحة نفسية في الوقت نفسه، بما تضم من مجرمين تحوّلوا بفعل جرائمهم إلى مرضى نفسيين، ليقضوا هناك عقوبة الحبس والعلاج في آن واحد، فكيف يتم التحقيق في تلك القضية؟ وكيف يتعامل المارشال الأمريكي ومساعده مع هؤلاء المرضى المجرمين؟ وهل سيصل إلى الحقيقة وتكلل مهمته بالنجاح؟ تلك هي التساؤلات التي يبدأ بها الفيلم، لكني أعدكم بأن إجابتها لن تكن متوقّعة.. أبداً. عالم مكعبات على طريقة لعبة المكعبات المرسوم عليها، لتشكّل عند تجميعها لوحة ما، مع إمكانية أن تتبدل تفاصيل تلك الرسمة تماماً مع تغيير وضعية تلك المكعبات، ستكتشف مع الوقت أن الفيلم أبعد بكثير من مجرد لغز بوليسي يسعى المارشال "تيدي" لحله، ولكنه أساساً دراما نفسية متقنة الصنع، تأخذك إلى متاهات المرض النفسي وأبعاده الخادعة التي تتلاعب بالحقيقة، وتصنع عالماً موازياً في الذهن بديلاً للواقع الحقيقي، ليتوقف شكل الصورة التي تراها على الزاوية التي تنظر منها.
منذ البداية، سيتيقّن المارشال "تيدي" أن تلك القضية ذات طابع خاص يختلف عن كل القضايا التي حقق فيها من قبل، خاصة مع ذلك السلوك المريب الذي أبداه الطاقم الطبي الذي يقوده دكتور "كولي - بين كينجسلي" لإخفاء أمر ما، وتتأكد شكوكه مع تلك الورقة الغامضة التي يعثر عليها في غرفة المريضة الهاربة "ريتشيل سولاندو"، وتتضمّن أرقاماً وجُملاً مبهمة، قبل أن تحاصر المارشال "تيدي" كوابيس تحضر فيها زوجته القتيلة "لوريس - ميشيل ويليام" لتحذّره من وجود قاتلها "أندرو ليديس" بالمستشفى، فيصبح مهتماً بالعثور على السفاح الذي قتل زوجته للانتقام منه بجانب دوره في حل لغز اختفاء المريضة الهاربة، بخلاف ثمة شكوك في أن طبيب المصحة يجري تجارب علمية غير مشروعة وليست آدمية على مرضاه، بعد أن حوّلهم في غفلة من الدولة لفئران تجارب، مستغلاً مرضهم النفسي وكلمتهم التي فقدت مصداقيتها؛ بسبب مرضهم، ليكتشف الطبيب ذلك ويبحث في ماضي ذلك المارشال النفسي كأحد قادة الحرب العالمية الثانية الذي اقتحم معسكر "داخاو" النازي الشهير، ليشاهد جثث آلاف الأبرياء القتلى المدفونين وسط الطين، ويشارك في الانتقام من النازيين بقتلهم بقلب بارد، ليستغل الطبيب هذه الخلفية النفسية للمارشال في محاولة للتشكيك في سلامة قواه العقلية وإصابته بالمرض حتى يضمن عدم خروجه من تلك الجزيرة للأبد!
مع الوقت سيتحوّل الأمر من صراعات بوليسية إلى مواجهات نفسية تغوص في أعماق النفس البشرية، وتلعب على أوتار الهواجس والمخاوف والذكريات المؤلمة والحقائق المشوشة، ويساهم في تأكيد ذلك استخدام الكاميرا بطريقة تملأ كل مشهد من مَشاهِد الفيلم بالإحساس بالقشعريرة، قبل أن تكتشف في النهاية مفاجأة كارثية لا يجدر بي أن أحرق عبقريتها، ولا روعة صدمتها وأنت تتلقاها لأول مرة في دار العرض، لكن كل ما يمكنني أن أعدك به أنك ستشك حتى في نفسك، وتكاد أن تسجد على الأرض حمداً على نعمة العقل الذي منحنا إياه الله، وكأنك لأول مرة تكتشف هذه النعمة!
فلسفة عبقرية أيهما أفضل.. أن تعيش وحشاً أم أن تموت كرجل صالح؟! هذا هو "مورال" الفيلم وهدفه الحقيقي، والذي تدفعك قصته وجمله الحوارية الفلسفية العميقة، على مدار 138 دقيقة للإجابة عليه، بعد أن تتيقن في النهاية أن هذا هو اللغز الحقيقي الأصلي، الذي اتخذ من لغز اختفاء المريضة النفسية مدخلاً مبدئياً للغز أكثر عمقاً اسمه "الإنسان"، الذي يبدو العالم بداخله أكثر تعقيداً من العالم الخارجي بكل أسرار مخلوقاته، وبحاره، ومحيطاته، وكواكبه، ومجراته!
فالفيلم يتلاعب بالسرد، ويمارس لعبة تبديل الشخصيات والتلاعب في حقيقتها من قمة الشر لأقصى درجات الخير، وفقاً للمنظور الذي ننظر به إليها، لكي تخرج منه بسيل من الأسئلة عن العقل والجنون، والفارق بين القتل باسم الوطن والقتل باسم الجنون، والحياة في الخيال والعيش في الواقع، والعنف كمرض قابل للشفاء في وجهة نظر البعض، وجزء من تكوين النفس البشرية لا يمكن العيش بدونه في وجهة نظر البعض الآخر.
تصفيق حاد الفيلم لوحة فنية فريدة، تعج بكل عناصر ومقومات الإبداع والإمتاع الفني، بدءاً من القصة التي كتبها "دينيس ليهان" وقامت بتحويلها إلى سيناريو "لاتيا كالوجريدس" بشكل محترف رغم تفاصيل القصة المزدحمة، وصعوبة تحويلها لسيناريو، مروراً بسقف التحدي الذي يرفعه المخرج المخضرم "مارتن سكورسيزي" في مباراته التي أدارها ببراعة منقطعة النظير مع المشاهدين، مثبتاً قدرته على اللعب فنياً في المساحات الداخلية للمرض النفسي، بعد أن توطدت شهرته في صناعة أفلام العنف الأمريكي، مستبدلاً الحركة المادية التي طبعت أعماله، بحيوية التوتر النفسي والعقلي التي تمثل الطبيعة الداخلية للإنسان، بخلاف الانتقال الناعم ما بين الخيال والواقع، واستخدام الجمل البصرية التي تُغنِي عن آلاف الكلمات سواء في الفلاشات البيضاء، والعودة لوقت الحرب، أو ذلك التباعد الذي نلاحظه بين أبطال الفيلم أثناء حوارهم ليدلل على التباعد العقلي بينهم، واختلاف حالتهم أثناء الحوار؛ إذ يقف أحدهم ويقف الآخر بجوار الباب بينما يشرب الثالث النبيذ، وخلق هذا شعوراً باختلاف هذه الشخصيات وطريقة وعيها وإدراكها، وأيضاً التصوير ل"روبررت رتشارد سون" الحاصل على الأوسكار عن فيلم "الطيار" من أصل 6 ترشيحات، والذي أجاد اقتحام العواصف والأمطار بشكل يجعلك تشعر بالبرودة وأنت تشاهد الفيلم، والشمس التي تكاد لا تظهر فكانت فرصة للإبداع لمصوّر نقل لنا غموض الأحداث بجمال الصورة، وكذا المونتاج ل"تليما أسنشون مارك" الحاصلة على الأوسكار 3 مرات من أصل 6 ترشيحات والتي جعلت من الإيقاع البطيء في خدمة الدراما، ورغم أن الموسيقى ل"روبي روبير تسون" في "جزيرة شاتر" قليلة جدًّا، ورغم أن المؤثرات الصوتية كانت هي الغالبة على الأحداث والصورة, سواء صوت المطر، الرياح، موج البحر، والأعاصير، إلا أن الموسيقى الحادة كانت تظهر بمثابة صوت الإنذار الذي يحدث أيام الحرب, بشكل يعطي الإحساس بالخطر من خلال الصفارة أو الضرب على الحديد لإعطاء الشعور بالرهبة وتحفيز المُشاهِد وصولاً للتمثيل، حيث وصل أداء "دي كابريو" إلى مرحلة الكمال الفني في دور صعب ومليء بالتناقضات, مع سلاسة غير عادية في الأداء والتعبير بطريقة تجعلني أكاد أجزم أنه حجز أوسكار أفضل ممثل لعام 2010 من الآن، وأكمل معه "مارك روفالو" و"بين كينجسلي" و"ميشيل ويليام" رسم اللوحة الفنية الرائعة للفيلم بأداء أكثر من رائع، ليثبت "سكورسيزي" أن تحفته الفنية الجديدة أكبر من الأوسكار التي ساهم في منحها لكل من تعامل معه على مدار مشواره الطويل الممتد لأكثر من 47 عاماً، وأنه يشكل حالة فريدة مع "دي كابريو" في رابع تعاون بينهما بعد "عصابات نيويورك" و"الطيار" و"العائدون".