من لم يستقل القطار المتجه للصعيد، ولم يقضِ فيه ساعات طويلة.. فيؤسفني أن أبلغه أنه قد فاته الكثير والكثير من المتع والتجارب.. الكلام ليس تهكماً ولا سخرية.. حقاً أنا أستمتع عندما أسافر إلى الصعيد، حيث الجذور والأصول والعائلة الصعيدية الكبيرة الدافئة.. ولكن جزءًا لا بأس به من استمتاعي بالرحلة السنوية إلى الصعيد، هي الساعات الطويلة التي أقضيها بالقطار.. كنت -وركّزوا كويس على "كنت" دي- أحب السفر بالقطار ليلاً.. تأمُّل.. سكون.. تنظر من زجاج النافذة لترى سواداً ليس له آخر، تتخلله بعض النقاط المضيئة على مسافات بعيدة؛ فلا تجد لك مهرباً من التأمل والخيال إذا لم تكن من محبي النوم بالقطار.. ثم تشرق الشمس، ويبدأ المسافرون حولك بالاستيقاظ الواحد تلو الآخر.. الأصوات خافتة.. تشاهد شروق الشمس في لوحة أبدعها الخالق، ويبدأ سواد زجاج النافذة في الانقشاع لتظهر مناظر الخضرة الجميلة، التي ما تلبث أن تبدأ في تأملها؛ حتى تجد من يهمس في أذنك: "حمد الله ع السلامة".. أما لماذا "كنت" أحب السفر ليلاً رغم كل المتع التي ذكرتها؟ فالإجابة تتلخص في آخر مرة سافرت فيها بالقطار ليلاً... كنا قد استقللنا قطار الصباح في رحلة الذهاب إلى بلدتنا بالصعيد.. وهو بالمناسبة المتعة الكبرى.. ولهذا فقد أصررت -سامحني الله- على أن تكون رحلة العودة في قطار الليل حتى نستمتع بالرحلة الليلية أيضاً.. ولم أكن أعرف أن الأمور قد اختلفت كثيراً بعد اختراع الموبايل أبو كامرتين.. وخاصة الأنواع الكوري والصيني التي تعتبر جهاز ستريو متنقل، والذي فزعت عندما سمعت صوته للمرة الأولى، لدرجة أنني ظننت أن الحرب البيولوجية قد بدأت بالفعل، وهذا الجهاز هو أول الأسلحة المستخدَمة.. ركبنا القطار في السابعة والنصف مساءً، ولم يكن في نيتنا أي سوء والله على ما أقول شهيد.. وانطلق القطار في طريقه إلى قاهرة المعز في تمام الثامنة.. أول القصيدة كانت مثلما يقولون بالمثل الشعبي.. تأخر القطار في القيام ربع الساعة.. بعض المشاكل في ترتيب المقاعد والتذاكر.. هرج ومرَج.. ثم جلس الجميع واستقروا بعد ساعة بالضبط من قيام القطار.. بدأت في تفقد المكان الذي سأقضي فيه الساعات القادمة.. اكتشفت أن معظم الركاب عبارة عن أسر ومعهم أطفال.. جلست أمنّي نفسي بأن الأطفال سوف ينامون بعد ساعة أو ساعتين، وأستطيع أنا الاستمتاع برحلتي.. بكاء.. صراخ.. وبعد ساعتين ونصف بدأ المكان يبدو أكثر هدوءاً.. نام البعض.. بدأت أشعر بالمشكلة الجديدة.. تكييف الهواء بدأ يبرّد الجو أكثر من اللازم.. بعد ساعة من البرد الشديد رغم أننا في عز الصيف مرّ أحد مفتشي القطار، فحاولت طرح المشكلة عليه، ولكن يبدو أن طريقتي لم تكن مناسبة: - لو سمحت.. ممكن تكلّم السواق يقلّل التكييف شوية أحسن الدنيا كده بقت برد علينا أوي؟ - إيه؟!! مين؟!! السواق؟!! هه!! سواق مييييين؟!! - خير يا أفندم؟ هو مش فيه سواق هو اللي ماشي بينا حضرتك، ولا أنا قلت حاجة غلط؟! - آه فيه سواق.. بس ده قداااام خاااالص.. ده مالوش دعوة بينا خاااالص.. - طب والحل؟ إحنا فعلاً بردانين و..... - الحل مش مع السواق.. السواق مالوش دعوة بالتكييف خاااالص.. التكييف ده عندنا إحنا هنا.. إحنا اللي نتحكم فيه.. (الظاهر إن كان نفسه يطلع سواق قَطْر، ومجموعه ما كملش فمتعقد منهم!). - طب لو سمحت قلّله حضرتك طالما الموضوع في إيدك. - ما إحنا لو قلّلناه بتقولوا إحنا مش حاسين إننا في قطْر مكيف، وإحنا دافعين، وفلوسنا، وما اعرفش إيه.. - طب يبقى الحل إننا نموت من البرد؟ والله إحنا مصدّقين إنكم مشغّلين التكييف بدليل إننا بردانين أهو.. - ماشي.. إن شاء الله.. ربنا يسهّل.. وبعد أقل من نصف ساعة، أصبحنا بقدرة قادر في القارة القطبية الجنوبية.. يبدو أنه فعلاً معقّد من السائقين، فذهب بالعند فينا ورفع درجة التبريد لدرجة فعلاً لا تُحتمل.. بعد أن يئسنا من عودة الإحساس بالدفء مرة أخرى لأجسادنا صرخت أختي وهي ترمي بالشال الذي حاولت أن تحتمي به من البرد القارس في شهر أغسطس: "طب أهو بقى.. ولا يهمني برد.. عادي ولا كأني حاسة بحاجة.. أنا حرانة.. حرانة جداااااا.. أوووفففف"!. بعدما بلغت الساعة الواحدة صباحاً.. كان كل العفاريت الصغار قد ناموا من التعب والبرد أيضاً.. وما إن بدأ السكون في التوغل داخل عربة القطار البائسة المتجمدة؛ حتى ارتفعت أصوات التليفونات المحمولة.. والجميع يتسابق في رفع صوت جهازه أعلى من الباقين.. أحدهم يسمع أدعية وابتهالات.. وآخر يستمع للقرآن الكريم.. وآخر يستمع للقرآن الكريم أيضاً ولكن بصوت قارئ مختلف، وبقراءة مختلفة وطبعاً سورة مختلفة.. أشخاص مختلفون يسمعون أغاني مختلفة (عمرو دياب.. طارق الشيخ.. مصطفى كامل.. ابن الريس متقال...)، أما من كان يجلس في الكرسي المجاور لنا، فكان يستمع لمقطع من مسرحية "شاهد ما شافش حاجة"، والمقطع لمدة دقيقة ونصف تقريباً؛ ظل يكرره بصورة متتالية طوال ساعات الرحلة حتى نام، وكلما أعاد المقطع (وعندك كام عيل؟.. سبعة.. في الشهر؟.. ستوب) ضحك بصوت عالٍ جداً، وبصورة هستيرية، وكأنه يشاهد اللقطة التي حفظناها جميعاً للمرة الأولى.. بعد أن فاض بنا منه، ومن غيظنا صرنا كلما أعاد المقطع نقوله نحن بصوت عالٍ ونضحك بطريقة سخيفة لكي يشعر بحالنا، ولكن هيهاااات.. بعد نوم أخينا السابق استيقظ الشخص الذي كان يجلس في المقعد الذي أمامه، بمجرد أن استيقظ أمسك بيده تليفونا كوريا أو صينيا، وله إريال طويل، كل خمس دقائق يرفع الإريلو ويستقبل الإرسال التليفزيوني وطبعاً نحن لا نسمع سوى (وشششششش) بصوت عالٍ جداً.. فما كان منا أنا وأختي إلا أن وقفنا من مقعدنا مرة واحدة، والصداع يفتك برأسينا والبرد يعصف بجسدينا والإرسال المشوّش يجعلنا غير قادرين علي الرؤية، وهتفنا بصوت عالٍ وبطريقة استعراضية: "كلّه ثقافة وعلوم وفنون.. بيسلّي تمام زي السيماااا.. التليفزيوووون.. التليفزيوووووووووووووووون".. أخيراً فهم ما نقصد وبنظرة اشمئزاز رمقنا بها في سخط على تصرفنا، ثم أطفأ جهازه المدمّر.. لا تتفاءلوا كثيراً.. أطفأه فقط كي ينام لمدة ساعة، ثم استيقظ ليعيد الكرّة، وكأن شيئاً لم يكن.. ونحن أيضاً أعدنا النشيد ولكن بلا جدوى.. عندما وصلنا إلى القاهرة كنا قد انتهينا جسدياً ونفسياً.. عزاؤنا الوحيد كان في أننا استفدنا من تجربة السفر ليلاً بعد التطور التكنولوجي المدمّر بأن قررنا عدم السفر مرة أخرى في هذا التوقيت.. وأيضاً الضحك الذي نضحكه حتى الآن، ونحن نتذكر أنفسنا نغني هذه الأغنية العتيقة في أشد حالات التعب والبرد والغلّ..