ولأن المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق، عرفت إلى أى مدى أحب أبناء بلدى المعتصمين فى شارع مجلس الوزراء، عندما انتهيت من تجهيز حقيبة سفرى وحان وقت السفر. رحلة بدأت تنظيمها منذ أكثر من شهر، وقتها لم يخطر ببالى أبدا أن أبناء بلدى سيظلون يضربون حتى يوم 16 ديسمبر. أقصى ما فكرت فيه أن هذا اليوم سيكون يوم إعلان نتيجة المرحلة الثانية من الانتخابات، ومالى أنا والانتخابات، لا علاقة لى بها سوى الإدلاء بصوتى فى اليوم الأول من المرحلة الأولى. ثم يشاء المجلس العسكرى أن يحرمنى من متعة السفر، وهى واحدة من المتع القليلة جدا فى حياتى، بأن أستيقظ صباح يوم السفر على خبر أن جنود الجيش يلقون على المعتصمين كل ما يصل إلى أيديهم من الدور التاسع بأحد مبانى مجلس الشعب، ويصيبونهم أى إصابة يقدرون عليها.. طوب وزجاج وحجارة وكراسى وأطباق صينى ولوحات معدنية مكتوب عليها آيات قرآنية وعصى ودولاب.. وأى شىء.. أى شىء. ضرب وحرائق وعصى كهربائية واعتقالات بالجملة. قبل أن أصل إلى المطار أرسل لى شابا تعرفت عليه فى يناير وظلت بيننا صداقة محترمة، رسالة يقول فيها إنه أصيب بحجر فى رقبته وانتقل إلى استقبال مستشفى الحسين. اتصلت برقم تليفونه فرد علىِّ صديق له يصحبه قال صارخا «إحنا مرميين هنا من تلات ساعات، مافيش دكتور مخ وأعصاب»، قلت له أنقله حالا «الفرنساوى»، فبدأ يناقشنى، أخرسته بجملة «هيه دى حال مستشفياتنا.. أمال إنتو بتثوروا ليه؟ اتصلت بجراح صديقى وحملته الأمانة وسافرت. والمحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق. منعنى من التراجع عن الرحلة أننى مرتبطة ببرنامج وأشخاص ومواعيد. وقلت لنفسى: الأغلب أن هذا لن ينتهى قريبا. وسنظل نعيش حياتنا رغم جنون ما يحدث. **** عندما نزلت للإدلاء بصوتى يوم 28 نوفمبر كان دم شهداء أحمد محمود ما زال ساخنا، فأصابتنى كل مظاهر الفرح فى التليفزيون أو على أبواب اللجان بألم وغضب. كنت كمن مات عزيز لديها، بينما أختها تحتفل بفرح ابنتها. عندما بدأت المرحلة الثانية اتصلت بى إحدى صديقاتى وقالت إنها فرحانة زى الأطفال لأنها واقفة فى طابور الانتخابات، كانت أحزانى أهدأ، فتجاوبت معها.. فى آخر اليوم اتصلت بى صديقة أخرى تحكى لى عن المناقشة بينها وابنتها فى طابور الانتخابات، صديقتى ترى أن انتخاب قائمة الكتلة أضمن حتى لا نفتت الأصوات فتضيع القائمتين «الثورة مستمرة» و«الكتلة» معا، وابنتها ترى أننا نعيش زمنا يجب أن يتمسك كل منا بمبادئه بصرف النظر عن النتائج، وأنها ستعطى صوتها ل«الثورة مستمرة» دون حسابات عملية. شعرت بحالة من الحماس والصدق فى الحوار بين الأم وابنتها انتقلت لى، لكن للأسف فى نفس وقت المكالمة التليفونية كانت أصوات سيارات الإسعاف تصم أذنى.. شعرت بالقلق، وقلت لصديقتى «غريبة.. تفتكرى فى حاجة عند مجلس الشعب؟ ليه الإسعاف الكتير ده؟ فقالت لى «والله إنتى اللى غريبة.. دى الموسيقى التصويرية المصاحبة لشارعكو طول الوقت». لم تمر دقائق حتى عرفت خبر التسمم الذى أصاب المعتصمين.. نسيت الحماس والنقاش وجمال الوقفة فى الطوابير، وعاد إلىِّ الحزن. غطى مشهد التسمم بكل تفاصيله المؤلمة على أى شعور آخر. ***** واليوم أنا الآن على بعد أميال من شارع قصر العينى. وما زال الضرب مستمرا. وأحبائى يصابون ويكسرون ويجرحون. والمحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.