جاءت ليدي "لوسي داف جوردن" إلى مصر عام 1862 بعد أن أخبرها الأطباء بأن حالتها الصحية لا تتحمل شتاء إنجلترا، وكانت في العام السابق لمجيئها قد ذهبت إلى جنوب أفريقيا؛ لكن حالة رئتها لم تتحسن هناك، وقضت ليدي جوردن ما تبقّى لها من سنوات في مصر، في الأقصر تحديداً؛ حيث تعلمت العربية وعايشت المصريين واطّلعت عن قرب على سلوكهم وأفكارهم؛ الشيء الذي يعكسه بوضوح كتابها "رسائل من مصر". يمثّل الكتاب تأريخاً مهماً لمصر في الفترة 1862- 1869، وهو تأريخ لا يتسم بالنبرة السياحية التي تصم بعض كتابات الرحّالة الغربيين، ولا يهتم بعالم السياسة؛ إلا فيما له علاقة بأحوال الفلاحين المصريين، الذين عانوا من سياسات إسماعيل باشا؛ سواء فيما له علاقة بالزراعة والأرض أو بحفر قناة السويس؛ لكن ما استوقفني على مدار الكتاب هو "الشيخ يوسف". كان الشيخ يوسف مسئولاً عن تدريس اللغة العربية لليدي جوردن؛ لكن الأهم أنه كان الواجهة المنيرة التي قدمت الإسلام والمصريين لامرأة إنجليزية. على مدار رحلة السنوات السبع الأخيرة من عمر الكاتبة يظهر الشيخ يوسف في مواضع عدة؛ نراه يُصرّ أن يقرأ أحمد "الكتاب المقدس". وأحمد الطفل هو ابن أحد المعارف المصريين الذي كان من المقرر أن يسافر إلى إنجلترا لاستكمال تعليمه. تقول جوردن إنها لم توافق على قراءة الكتاب المقدس معه؛ إلا بعد أن استأذنت والده، وعندما سمعها الشيخ يوسف، أظهر إصراره على أن يقرأ أحمد الكتاب المقدس؛ حتى تحميه المعرفة من الأفكار الخاطئة، التي قد تقابله في أوساط الإنجليز من الطبقات غير المتعلمة. ومثلما نرى الشيخ يوسف يسأل ليدي جوردن عن قوانين الزواج والإرث في المسيحية حتى لا يصدر حكماً ظالماً لقبطي مصري؛ فهو يؤكد في موضع آخر أنه لا القرآن ولا رأي العلماء يدين المسيحي أو اليهودي لاختلاف الديانة ولا حتى الكافر. وفي إحدى مناظراته مع رجل دين آخر (الشيخ عبد الرحمن)؛ يؤكد الشيخ يوسف أن الله قد أرسل الديانات من خلال رسله؛ لكنه ترك كل فروع المعرفة الأخرى مفتوحة أمام عقل الإنسان؛ فلماذا لا نتعلم من ثقافات أخرى سبقتنا في فروع العلم؟! إن رسائل ليدى جوردن من مصر، التي تغطي الفترة بين 1862 و1869، ترسم صورة بعيدة كل البعد عن الخطاب الديني المصري، الذي علا صوته في نهايات القرن العشرين وبدايات الألفية.
إنها صورة التديّن السمح الذي لا يدّعي تميّزاً على الآخرين، ولا يرفع نبرة خشنة في وجه امرأة مسيحية؛ بل يدعو لها بالشفاء في مولد سيدي أبو الحجاج الأقصري؛ حيث عاشت جوردن بجواره، ودفنت في أرضه وبين أتباعه من المسلمين. تؤكد جوردن على مدار الكتاب أن كلاً من المسيحية والإسلام في مصر يعودان بطقوسهما إلى آلاف السنين حين عرف المصري القديم الإله وقدّسه واحتفى به. إنه الدين الذي يؤكد كرامة البشر والمساواة الكاملة بينهم بغض النظر عن اعتبارات الثروة والنفوذ. رحم الله الشيخ يوسف وأمثاله من العلماء المستنيرين ذوي العلم الواسع والتسامح الفياض، الذين كانوا المقدمات الطبيعية لظهور الإمام محمد عبده بأفكاره، التي ساهمت في بناء النهضة الليبرالية المصرية في بدايات القرن العشرين. عن المصري اليوم 4 أبريل 2010