هي امرأة ليست أرملة أو مطلّقة، ولكنها متزوّجة وزوجها بصحة وعافية، ولكنه يزهد عن العمل، ويرضى على زوجته أن تتولّى الإنفاق على المنزل، لا تجد الزوجة أمامها سوى أن تنصاع لأوامر الزوج دون أن تتذمر، فمن ناحية تخاف من فكرة الطلاق وتتمسّك بمقولة "ضل راجل ولا ضل حيطة". ومن ناحية أخرى تحاول حماية أولادها من التشرّد طالما قَبِل الزوج أن يعيش كخيال مآتة يقضي نهاره في النوم وليله في السهر على المقاهي وكل دوره هو تحصيل إيراد عمل زوجته. هذه الحالة وجدناها عند العديد من الأسر، بل وصلت إلى حد الظاهرة في بعض القرى مثل قرية "البيضا" بالمنوفية والتي تنزح نساؤها يومياً للعمل كبائعات للخضراوات ومنتجات الألبان والطيور في أسواق القاهرة، ووجدناها أيضاً عند بعض سكان المناطق العشوائية بعزبة "الهجانة" ومنطقة "زرزارة" ببورسعيد حيث تخرج نساؤها للعمل كخادمات بالمنازل. بدأت جولتنا لرصد هذه الظاهرة داخل إحدى الأسواق بمنطقة روض الفرج؛ حيث جلسنا مع سيدة في العقد الرابع من عمرها تُدعَى "حسنية"، وقالت: أحضر يومياً من قرية "البيضا" إلى السوق لبيع الملوخية والبط والأوز والجبن والألبان، وقد خرجت إلى العمل مُجبرة بعدما قرر زوجي ترك عمله كعامل زراعي بحجة أنه لم يعد قادراً عليه، رغم أنه بكامل صحته وسِنه لم يتجاوز الخمسين عاماً، وطلب مني أن أخرج للعمل وإلا سوف يكون مصيري الطلاق وتشريد أولادي الستة، ورغم رفضي في بداية الأمر إلا أنني قبلت بعدما أقدم على منع الأبناء من الذهاب إلى مدارسهم. اقترضت مبلغاً مالياً من أحد جيراننا لشراء البضائع التي سوف أبيعها بالسوق، وبدأت العمل بأسواق القاهرة والذي يتطلّب الخروج يومياً من المنزل قبل صلاة الفجر والعودة قبل الغروب للقيام بمهامي المنزلية من إعداد للطعام وغسل الملابس وغير ذلك بعد أن يقوم زوجي بالحصول على إيراد عملي كاملاً للإنفاق منه على نفسه ولا يترك لي أو لأولادي سوى القليل.
وفاء: أجبرني على العمل وإلا سيتزوج من سيدة أخرى بجوار "حسنية" التقينا مع امرأة أخرى من نفس قريتها، وتُدعَى "وفاء" والتي أوضحت أنها ونساء قريتها ينتشرن للعمل بأسواق القاهرة الكبرى سواء في شبرا الخيمة أو روض الفرج أو السيدة زينب أو الجيزة، ونخرج سوياً في شكل مجموعات لركوب القطار فجراً حاملين بضائعنا، ومَن تَعود منا دون تحقيق الربح المناسب يكون عقابها الضرب من زوجها، ولذلك فقد نضطر إلى التجوّل بين المنازل لبيع أكبر كمية من البضائع حتى لو عدنا إلى قريتنا في منتصف الليل. وأضافت "وفاء": زوجي كان يعمل في نفس المجال الذي أعمل فيه الآن، ولكنه فجأة توقّف عن العمل؛ متعللاً أن هذا النوع من العمل هو مِن اختصاص النساء فقط، وطلب مني أن أقوم أنا بذلك متناسياً أنني أربّي أربعة أبناء منهم طفل معاق يحتاج عناية خاصة، ورضِي على نفسه أن يقوم هو بهذا الدور مقابل أن أخرج للعمل بدلاً منه وإلا فسوف يتزوّج من سيدة أخرى لا تمانع أن تعمل من أجل الإنفاق عليه، فلم أجد سوى الخضوع لأوامره لمواجهة مصاعب الحياة داخل الأسواق سواء من قِبل التجار الرجال أو مِن بعض الزبائن أو البلطجية الذين يفرضون علينا الإتاوات مقابل السماح لنا بالبيع في الأسواق، ولكن كل ذلك يهون من أجل أن يكون معي نفقات أبنائي واستكمال تعليمهم. وفي سوق شبرا الخيمة تحدّثنا مع "ناهد" وفوجئنا أنها لا تجد غرابة في أن تعمل وزوجها جالس بالمنزل، وقالت: إن هذا الأمر منتشر في قريتي (البيضا) وبعض القرى المجاورة، فالمهم عندي إن زوجي يكون راضي عني والست عندنا بمائة راجل، وهو ما جعل العديد من رجال وشباب قرى المحافظات الأخرى يسعَوْن للزواج من فتياتنا، ويعتبروهن ثروة أو دجاجة تلد ذهباً، فمهما كان مهرهن غالياً أو يطلب آباؤهن (شبكة) تتعدّى النص كيلو جرامات من الذهب فهم يحرصون على الزواج منهن؛ لأنهم يعرفون جيداً أنهن سوف يخرجن للعمل ويحضرن لهم الإيراد اليومي. وأشارت "ناهد" إلى أن المكسب اليومي من عملها قد يصل إلى أكثر من 100 جنيه؛ يعني 3 آلاف جنيه شهرياً، وهو مبلغ ضخم بالطبع.
عمل المرأة ليس عيباً بل العيب في انعدام النخوة عند بعض الرجال وأثناء جلوسنا مع "ناهد" وجدناها تُخرج ما معها من أموال وتعطيها لرجل تظهر عليه علامات الصحة؛ حيث الجسد الضخم، وعرفنا منها أنه زوجها جاء إليها ليحصل منها على بعض الأموال لزوم شراء هدايا لأحد أصدقائه الذي حضر ليحضر زفافه بالقاهرة، ووجدناها فرصة للتعرّف على وجهة نظر هذه الفئة من الرجال التي تعيش على (عرق) زوجاتهم. فقال الرجل ويُدعَى "محمود": بدأت ظاهرة زهد الرجال عن العمل والاعتماد على إيرادات عمل أزواجهم منذ حوالي 15 عاماً، وقد بدأت بخروج الأرامل والمطلقات للعمل لتوفير نفقاتهن ونفقات أبنائهن بعد وفاة الزوج أو هجره للأسرة. وقد لاحظ عدد كبير من الأهالي أنهن يُحققن أرباحاً معقولة من عملهن في التجارة بأسواق القاهرة، فقرر بعض الرجال أن تخرج زوجاتهم للعمل أيضاً لزيادة الدخل، وتدريجياً زهد الرجال نهائياً عن العمل، واكتفوا بعمل زوجاتهم فقط، وهو حال الكثير من الرجال، ولذلك لا نجد في الأمر عيباً أو إساءة لنا كرجال، ونطلب أيضاً من بناتنا الخروج للعمل حتى تحظى بزوج في أسرع وقت فشرط أساسي للزوج من فتيات قريتنا أن تكون الفتاة ماهرة في العمل بالتجارة. وأضاف أنا أجلس بالبيت طوال النهار بجانب أبنائي، وأنتظر عودة زوجتي لإعداد الطعام، وبعدها أقوم بالخروج للسهر بالجلوس مع أهل القرية على المقاهي التي تعج بهم، ونعود مع أذان الفجر لنجد أزواجنا يخرجن للعمل. إذا كان هذا هو حال الزوجات البائعات بالأسواق، فالأمر لا يختلف كثيراً عند العاملات كخادمات وإن كانت ظروف عملهن أصعب، فعندما التقينا مع "سهير صلاح" وهي من سكان عشوائيات منطقة "الهجانة" قالت: إننا منذ أن حضرنا إلى المنطقة قبل 13 عاماً والسيدات تعملن كخادمات بعمارات مدينة نصر. وكان عمل الرجال أغلبهم في عمليات البناء كعمال تراحيل، ولكنهم بعد ذلك قرروا الاكتفاء بإيراد عمل زوجاتهم والجلوس في البيت لرعاية الأبناء، وأشارت إلى أن جميع نساء المنطقة راضيات بحالهن؛ لأنهن تعوّدن على ذلك حيث إن ما يحصلن عليه من أموال ينصب عند الزوج، وهذا هو همه الوحيد بغض النظر عن صعوبة العمل الذي نعمل به. ونفس الأمر وجدناه أيضاً بمنطقة "زرزارة" إحدى المناطق العشوائية بمدينة بورسعيد؛ حيث تعمل السيدات أيضاً كخادمات بالمنازل؛ والسبب في ذلك كما يقول أحد رجال المنطقة ويُدعَى "سعيد": "إن ظروف المعيشة أصبحت صعبة ببورسعيد مع الإعلان عن اقتراب إلغاء المنطقة الحرة؛ حيث لا يجيدون سوى العمل بالتجارة وتحقيق المكاسب السريعة، ولذلك نفضّل الجلوس في البيت عن العمل في أي مهنة، ونفضّل أن تخرج زوجاتنا لتدبير نفقات المنزل". الظاهرة تحتاج إلى وقفة؛ لأنها متعلّقة بالكيان المجتمعي والعادادت الشرقية التي نشأنا عليها، فعندما يرضى الرجل على نفسه أن يعيش حياته بلا مبالاة، وأن تتحمّل زوجته أعباء فوق أعبائها فإن الخلل سوف يحدث حتماً؛ فالأطفال سيصبحون ضحايا لوضع اجتماعي معكوس، وسوف تختلط عليهم معايير الرجولة والأمومة. إن عمل المرأة ليس عيباً، بل العيب في انعدام النخوة عند بعض الرجال.